( ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ .

تَفْرِيعٌ عَلى ما تَقَرَّرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِاللُّطْفِ والعِنايَةِ ووَعْدِهِ بِتَيْسِيرِ ما هو عَسِيرٌ عَلَيْهِ في طاعَتِهِ الَّتِي أعْظَمُها تَبْلِيغُ الرِّسالَةِ دُونَ مَلَلٍ ولا ضَجَرٍ.

والفَراغُ: خُلُوُّ باطِنِ الظَّرْفِ أوِ الإناءِ؛ لِأنَّ شَأْنَهُ أنْ يُظْرَفَ فِيهِ.

وفِعْلُ (فَرَغَ) يُفِيدُ أنَّ فاعِلَهُ كانَ مَمْلُوءًا بِشَيْءٍ، وفَراغُ الإنْسانِ مَجازٌ في إتْمامِهِ ما شَأْنُهُ أنْ يَعْمَلَهُ.

ولَمْ يُذْكَرْ هُنا مُتَعَلَّقُ (﴿فَرَغْتَ﴾)، وسِياقُ الكَلامِ يَقْتَضِي أنَّهُ لازِمُ أعْمالٍ يَعْمَلُها الرَّسُولُ ﷺ كَما أنَّ مَساقَ السُّورَةِ في تَيْسِيرِ مَصاعِبِ الدَّعْوَةِ وما يَحُفُّ بِها، فالمَعْنى: إذا أتْمَمْتَ عَمَلًا مِن مَهامِّ الأعْمالِ فَأقْبِلْ عَلى عَمَلٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَعْمُرُ أوْقاتَهُ

صفحة ٤١٧

كُلَّها بِالأعْمالِ العَظِيمَةِ. ومِن هُنا قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ قُفُولِهِ مِن إحْدى غَزَواتِهِ: ”«رَجَعْنا مِنَ الجِهادِ الأصْغَرِ إلى الجِهادِ الأكْبَرِ» “، فالمَقْصُودُ بِالأمْرِ هو ”فانْصَبْ“ . وأمّا قَوْلُهُ: (﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾) فَتَمْهِيدٌ وإفادَةٌ لِإيلاءِ العَمَلِ بِعَمَلٍ آخَرَ في تَقْرِيرِ الدِّينِ ونَفْعِ الأُمَّةِ. وهَذا مِن صِيَغِ الدَّلالَةِ عَلى تَعاقُبِ الأعْمالِ. ومِثْلُهُ قَوْلُ القائِلِ: ما تَأْتِينِي مِن فُلانٍ صِلَةٌ إلّا أعْقَبَتْها أُخْرى.

واخْتَلَفَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ في تَعْيِينِ المَفْرُوغِ مِنهُ، وإنَّما هو اخْتِلافٌ في الأمْثِلَةِ، فَحَذْفُ المُتَعَلَّقِ هُنا لِقَصْدِ العُمُومِ، وهو عُمُومٌ عُرْفِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها السِّياقُ لِيَشْمَلَ كُلُّ مُتَعَلَّقٍ عَمَلَهُ مِمّا هو مُهِمٌّ كَما عَلِمْتَ، وهو أعْلَمُ بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الأعْمالِ عَلى بَعْضٍ إذا لَمْ يُمْكِنِ اجْتِماعُ كَثِيرٍ مِنها بِقَدْرِ الإمْكانِ كَما أقَرَّ اللَّهُ بِأداءِ الصَّلاةِ مَعَ الشُّغْلِ بِالجِهادِ بِقَوْلِهِ: (﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢]) إلى قَوْلِهِ: (﴿كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣]) في سُورَةِ النِّساءِ.

وهَذا الحُكْمُ يَنْسَحِبُ عَلى كُلِّ عَمَلٍ مُمْكِنٍ مِن أعْمالِهِ الخاصَّةِ بِهِ، مِثْلَ: قِيامِ اللَّيْلِ، والجِهادِ عِنْدَ تَقَوِّي المُسْلِمِينَ، وتَدْبِيرِ أُمُورِ الأُمَّةِ.

وتَقْدِيمُ (﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾) عَلى (﴿فانْصَبْ﴾) لِلِاهْتِمامِ بِتَعْلِيقِ العَمَلِ بِوَقْتِ الفَراغِ مِن غَيْرِهِ لِتَتَعاقَبَ الأعْمالُ. وهَذِهِ الآيَةُ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ القُرْآنِيَّةِ لِما احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِن كَثْرَةِ المَعانِي.