Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ .
ارْتِقاءً في الإبْطالِ وهو إبْطالٌ ثانٍ لِدَعْواهم بِطَرِيقِ النَّقْضِ الجَدَلِيِّ المُسَمّى بِالمُعارَضَةِ وهو تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ والِاسْتِدْلالِ لِما يُنافِي ثُبُوتَ المَدْلُولِ؛ وهَذا إبْطالٌ خاصٌّ بِأهْلِ الكِتابِ اليَهُودِ والنَّصارى؛ ولِذَلِكَ أظْهَرَ فاعِلَ تَفَرَّقَ ولَمْ يَقُلْ: وما تَفَرَّقُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ، إذْ لَوْ أضْمَرَ لَتُوُهِّمَتْ إرادَةُ المُشْرِكِينَ مِن جُمْلَةِ مَعادِ الضَّمِيرِ، بَعْدَ أنْ أبْطَلَ زَعْمَهم بِقَوْلِهِ: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢] ارْتَقى إلى إبْطالِ مَزاعِمِهِمْ إبْطالًا مَشُوبًا بِالتَّكْذِيبِ وبِشَهادَةِ ما حَصَلَ في الأزْمانِ الماضِيَةِ.
فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ عاطِفَةً إبْطالًا عَلى إبْطالٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ واوَ الحالِ.
والمَعْنى: كَيْفَ يَزْعُمُونَ أنَّ تَمَسُّكَهم بِما هم عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ مُغَيًّى بِوَقْتِ أنْ تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ؛ والحالُ أنَّهم جاءَتْهم بَيِّنَةٌ مِن قَبْلِ ظُهُورِ الإسْلامِ وهي بَيِّنَةُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَتَفَرَّقُوا في الإيمانِ بِهِ، فَنَشَأ مِن تَفَرُّقِهِمْ حُدُوثُ مِلَّتَيْنِ: اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ.
والمُرادُ بِهَذِهِ البَيِّنَةِ الثّانِيَةِ مَجِيءُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَإنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ كَما وعَدَهم أنْبِياؤُهم أمْثالَ إلْياسَ واليَسَعَ وأشْعِياءَ. وقَدْ أجْمَعَ اليَهُودُ عَلى النَّبِيءِ المَوْعُودِ بِهِ تَجْدِيدُ الدِّينِ الحَقِّ وكانُوا مُنْتَظِرِينَ المُخَلِّصَ، فَلَمّا جاءَهم عِيسى كَذَّبُوهُ؛ أيْ: فَلا يَطْمَعُ في صِدْقِهِمْ فِيما زَعَمُوا مِنِ انْتِظارِ البَيِّنَةِ بَعْدَ عِيسى وهم قَدْ كَذَّبُوا بِبَيِّنَةِ عِيسى؛ فَتَبَيَّنَ أنَّ الجُحُودَ والعِنادَ شَنْشَنَةٌ فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ.
والمُرادُ بِالتَّفَرُّقِ: تَفَرُّقٌ بَيْنَ إسْرائِيلَ بَيْنَ مُكَذِّبٍ لِعِيسى ومُؤْمِنٍ بِهِ، وما آمَنَ بِهِ إلّا نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنَ اليَهُودِ.
صفحة ٤٧٩
وجُعِلَ التَّفَرُّقُ كِنايَةً عَنْ إنْكارِ البَيِّنَةِ؛ لِأنَّ تَفَرُّقَهم كانَ اخْتِلافًا في تَصْدِيقِ بَيِّنَةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فاسْتُعْمِلَ التَّفَرُّقُ في صَرِيحِهِ وكِنايَتِهِ لِقَصْدِ إدْماجِ مَذَمَّتِهِمْ بِالِاخْتِلافِ بَعْدَ ظُهُورِ الحَقِّ كَقَوْلِهِ: ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩] .فالتَّعْرِيفُ في البَيِّنَةِ المَذْكُورَةِ ثانِيًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أوْ لِلْمَعْهُودِ بَيْنَ المُتَحَدِّثِ عَنْهم، وهي بَيِّنَةٌ أُخْرى غَيْرُ الأُولى، وإعادَتُها مِن إعادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً مِثْلَها؛ إذِ المَعْرُوفُ بِلامِ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ بِمَنزِلَةِ النَّكِرَةِ، أوْ مِن إعادَةِ المَعْرِفَةِ المَعْهُودَةِ مَعْرِفَةً مِثْلَها، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ لا تَكُونُ المُعادَةُ عَيْنَ الَّتِي قَبْلَها.
وقَدْ أطْبَقَتْ كَلِماتُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ أنَّهم ما تَفَرَّقُوا عَنِ اتِّباعِ الإسْلامِ، أيْ: تَباعَدُوا عَنْهُ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ . وهَذا تَأْوِيلٌ لِلَفْظِ التَّفَرُّقِ وهو صَرْفٌ عَنْ ظاهِرِهِ بَعِيدٌ، فَأشْكَلَ عَلَيْهِمْ وجْهُ تَخْصِيصِ أهْلِ الكِتابِ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ التَّباعُدَ عَنِ الإسْلامِ حاصِلٌ مِنهم ومِنَ المُشْرِكِينَ، وجَعَلُوا المُرادَ بِـ ”البَيِّنَةُ“ الثّانِيَةِ عَيْنَ المُرادِ بِالأُولى وهي بَيِّنَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ سِوى أنَّ الفَخْرَ ذَكَرَ كَلِماتٍ تُنْبِئُ عَنْ مُخالَفَةِ المُفَسِّرِينَ في مَحْمَلِ تَفَرُّقِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ، فَإنَّهُ بَعْدَ أنْ قَرَّرَ المَعْنى بِما يُوافِقُ كَلامَ بَقِيَّةِ المُفَسِّرِينَ أتى بِما يَقْتَضِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلى حَقِيقَتِهِ، وحَمْلَ البَيِّنَةِ الثّانِيَةِ عَلى مَعْنًى مُغايِرٍ لِمَحْمَلِ البَيِّنَةِ الأُولى؛ إذْ قالَ: المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَسْلِيَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ: لا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهم، فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ في الحُجَّةِ، بَلْ لِعِنادِهِمْ؛ فَسَلَفُهم هَكَذا كانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا في السَّبَبِ وعِبادَةِ العِجْلِ إلّا بَعْدَ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ؛ فَهي عادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهم، وهو مُعارِضٌ لِأوَّلِ كَلامِهِ، ولَعَلَّهُ بَدا لَهُ هَذا الوَجْهُ وشَغَلَهُ عَنْ تَحْرِيرِهِ شاغِلٌ وهَذا مِمّا تَرَكَهُ الفَخْرُ في المُسَوَّدَةِ.