﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ﴾ ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ .

شابَهَتْ فاتِحَتُها فاتِحَةَ سُورَةِ الفَلَقِ إلّا أنَّ سُورَةَ الفَلَقِ تَعَوُّذٌ مِن شُرُورِ المَخْلُوقاتِ مِن حَيَوانٍ وناسٍ، وسُورَةَ النّاسِ تَعَوُّذٌ مِن شُرُورِ مَخْلُوقاتٍ خَفِيَّةٍ وهي الشَّياطِينُ.

والقَوْلُ في الأمْرِ بِالقَوْلِ، وفي المَقُولِ، وفي أنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيءِ ﷺ، والمَقْصُودَ شُمُولُهُ أُمَّتَهُ، كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ في سُورَةِ الفَلَقِ سَواءً.

وعُرِّفَ (رَبِّ) بِإضافَتِهِ إلى النّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ المَرْبُوبِينَ؛ لِأنَّ الِاسْتِعاذَةَ مِن شَرٍّ يُلْقِيهِ الشَّيْطانُ في قُلُوبِ النّاسِ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ، فالشَّرُّ المُسْتَعاذُ مِنهُ مَصَبُّهُ إلى النّاسِ، فَناسَبَ أنْ يُسْتَحْضَرَ المُسْتَعاذُ إلَيْهِ بِعُنْوانِ أنَّهُ رَبُّ مَن يُلْقُونَ الشَّرَّ ومَن يُلْقى إلَيْهِمْ لِيَصْرِفَ هَؤُلاءِ، ويَدْفَعَ عَنِ الآخَرِينَ كَما يُقالُ لِمَوْلى العَبْدِ: يا مَوْلى فُلانٍ كُفَّ عَنِّي عَبْدَكَ.

وقَدْ رُتِّبَتْ أوْصافُ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلى النّاسِ تَرْتِيبًا مُدَرَّجًا، فَإنَّ اللَّهَ خالِقُهم، ثُمَّ هم غَيْرُ خارِجِينَ عَنْ حُكْمِهِ إذا شاءَ أنْ يَتَصَرَّفَ في شُئُونِهِمْ، ثُمَّ زِيدَ بَيانًا بِوَصْفِ

صفحة ٦٣٣

إلَهِيَّتِهِ لَهم لِيَتَبَيَّنَ أنَّ رُبُوبِيَّتَهُ لَهم وحاكِمِيَّتَهُ فِيهِمْ لَيْسَتْ كَرُبُوبِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وحاكِمِيَّةِ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ.

وفِي هَذا التَّرْتِيبِ إشْعارٌ أيْضًا بِمَراتِبِ النَّظَرِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ النّاظِرَ يُعْلِنُ بادِئَ ذِي بَدْءٍ بِأنَّ لَهُ رَبًّا بِسَبَبِ ما يَشْعُرُ بِهِ مِن وُجُودِ نَفْسِهِ ونِعْمَةِ تَرْكِيبِهِ، ثُمَّ يَتَغَلْغَلُ في النَّظَرِ فَيَشْعُرُ بِأنَّ رَبَّهُ هو المَلِكُ الحَقُّ الغَنِيُّ عَنِ الخَلْقِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ فَهو إلَهُ النّاسِ كُلِّهِمْ.

و﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ عَطْفُ بَيانٍ مِن رَبِّ النّاسِ وكَذَلِكَ ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ فَتَكْرِيرُ لَفْظِ النّاسِ دُونَ اكْتِفاءٍ بِضَمِيرِهِ؛ لِأنَّ عَطْفَ البَيانِ يَقْتَضِي الإظْهارَ لِيَكُونَ الِاسْمُ المُبَيِّنُ (بِكَسْرِ الياءِ) مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ؛ لِأنَّ عَطْفَ البَيانِ بِمَنزِلَةِ عَلَمٍ لِلِاسْمِ المُبَيَّنِ (بِالفَتْحِ) .

والنّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبَشَرِ جَمِيعِهِمْ أوْ طائِفَةٍ مِنهم ولا يُطْلَقُ عَلى غَيْرِهِمْ عَلى التَّحْقِيقِ.

والوَسْواسُ: المُتَكَلِّمُ بِالوَسْوَسَةِ، وهي الكَلامُ الخَفِيُّ. قالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ صائِدًا في قُتْرَتِهِ:

وسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ

فالوَسْواسُ اسْمُ فاعِلٍ، ويُطْلَقُ الوَسْواسُ بِفَتْحِ الواوِ مَجازًا عَلى ما يَخْطُرُ بِنَفْسِ المَرْءِ مِنَ الخَواطِرِ الَّتِي يَتَوَهَّمُها مِثْلَ كَلامٍ يُكَلِّمُ بِهِ نَفْسَهُ. قالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ:

وإذا وجَدْتَ لَها وساوِسَ سَلْوَةٍ ∗∗∗ شَفَعَ الفُؤادُ إلى الضَّمِيرِ فَسَلَّها

والتَّعْرِيفُ في (الوَسْواسِ) تَعْرِيفُ الجِنْسِ، وإطْلاقُ (الوَسْواسِ) عَلى مَعْنَيَيْهِ المَجازِيِّ والحَقِيقِيِّ يَشْمَلُ الشَّياطِينَ الَّتِي تُلْقِي في أنْفُسِ النّاسِ الخَواطِرَ الشِّرِّيرَةَ قالَ تَعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطانُ﴾ [طه: ١٢٠]، ويَشْمَلُ الوَسْواسُ كُلَّ مَن يَتَكَلَّمُ كَلامًا خَفِيًّا مِنَ النّاسِ، وهم أصْحابُ المَكائِدِ والمُؤامَراتِ المَقْصُودِ مِنها إلْحاقُ الأذى مِنِ اغْتِيالِ نُفُوسٍ أوْ سَرِقَةِ أمْوالٍ أوْ إغْراءٍ بِالضَّلالِ والإعْراضِ عَنِ الهُدى؛ لِأنَّ شَأْنَ مُذاكَرَةِ هَؤُلاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ أنْ تَكُونَ سِرًّا لِئَلّا يَطَّلِعَ عَلَيْها مَن يُرِيدُونَ الإيقاعَ بِهِ، وهُمُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الدَّوائِرَ ويُغْرُونَ النّاسَ بِأذِيَّتِهِ.

صفحة ٦٣٤

والخَنّاسُ: الشَّدِيدُ الخَنْسِ والكَثِيرُهُ. والمُرادُ أنَّهُ صارَ عادَةً لَهُ. والخَنْسُ والخُنُوسُ: الِاخْتِفاءُ. والشَّيْطانُ يُلَقَّبُ بِـ (الخَنّاسِ) لِأنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَقْلِ الإنْسانِ وعَزْمِهِ مِن غَيْرِ شُعُورٍ مِنهُ فَكَأنَّهُ خَنَسَ فِيهِ، وأهْلُ المَكْرِ والكَيْدِ والتَّخَتُّلِ خَنّاسُونَ؛ لِأنَّهم يَتَحَيَّنُونَ غَفَلاتِ النّاسِ ويَتَسَتَّرُونَ بِأنْواعِ الحِيَلِ لِكَيْلا يَشْعُرَ النّاسُ بِهِمْ.

فالتَّعْرِيفُ في (الخَنّاسِ) عَلى وزْنِ تَعْرِيفِ مَوْصُوفِهِ، ولِأنَّ خَواطِرَ الشَّرِّ يَهُمُّ بِها صاحِبُها فَيُطْرِقُ ويَتَرَدَّدُ ويَخافُ تَبِعاتِها وتَزْجُرُهُ النَّفْسُ اللَّوّامَةُ، أوْ يَزَعُهُ وازِعُ الدِّينِ أوِ الحَياءِ أوْ خَوْفُ العِقابِ عِنْدَ اللَّهِ أوْ عِنْدَ النّاسِ ثُمَّ تُعاوِدُهُ حَتّى يَطْمَئِنَّ لَها ويَرْتاضَ بِها فَيُصَمِّمَ عَلى فِعْلِها فَيَقْتَرِفَها، فَكَأنَّ الشَّيْطانَ يَبْدُو لَهُ ثُمَّ يَخْتَفِي، ثُمَّ يَبْدُو ثُمَّ يَخْتَفِي حَتّى يَتَمَكَّنَ مِن تَدْلِيَتِهِ بِغُرُورٍ.

ووُصِفَ ﴿الوَسْواسِ الخَنّاسِ﴾ بِـ ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ لِتَقْرِيبِ تَصْوِيرِ الوَسْوَسَةِ كَيْ يَتَّقِيَها المَرْءُ إذا اعْتَرَتْهُ لِخَفائِها، وذَلِكَ بِأنْ بُيِّنَ أنَّ مَكانَ إلْقاءِ الوَسْوَسَةِ هو صُدُورُ النّاسِ وبَواطِنُهم، فَعَبَّرَ بِها عَنِ الإحْساسِ النَّفْسِيِّ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦] وقالَ تَعالى: ﴿إنْ في صُدُورِهِمْ إلّا كِبْرٌ ما هم بِبالِغِيهِ﴾ [غافر: ٥٦] . وقالَ النَّبِيءُ ﷺ: «الإثْمُ ما حاكَ في الصَّدْرِ وتَرَدَّدَ في القَلْبِ» فَغايَةُ الوَسْواسِ مِن وسْوَسَتِهِ بَثُّها في نَفْسِ المَغْرُورِ والمَشْبُوكِ في فَخِّهِ، فَوَسْوَسَةُ الشَّياطِينِ اتِّصالاتُ جاذِبِيَّةِ النُّفُوسِ نَحْوَ داعِيَةِ الشَّياطِينِ وقَدْ قَرَّبَها النَّبِيءُ ﷺ في آثارٍ كَثِيرَةٍ بِأنْواعٍ مِنَ التَّقْرِيبِ مِنها (أنَّها كالخَراطِيمِ يَمُدُّها الشَّيْطانُ إلى قَلْبِ الإنْسانِ) وشَبَّهَها مَرَّةً بِالنَّفْثِ، ومَرَّةً بِالإبْساسِ. وفي الحَدِيثِ («إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما» ) .

وإطْلاقُ فِعْلِ (يُوَسْوِسُ) عَلى هَذا العَمَلِ الشَّيْطانِيِّ مَجازٌ، إذْ لَيْسَ لِلشَّيْطانِ كَلامٌ في باطِنِ الإنْسانِ. وأمّا إطْلاقُهُ عَلى تَسْوِيلِ الإنْسانِ لِغَيْرِهِ عَمَلَ السُّوءِ فَهو حَقِيقَةٌ. وتَعَلُّقُ المَجْرُورِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي صُدُورِ النّاسِ﴾ بِفِعْلِ ﴿يُوَسْوِسُ﴾ بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ تَعَلُّقٌ حَقِيقِيٌّ، وأمّا بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ النّاسِ فَهو مَجازٌ عَقْلِيٌّ؛ لِأنَّ وسُوسَةَ النّاسِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ أثَرِها في الصُّدُورِ فَكانَ في كُلٍّ مِن فِعْلِ (يُوَسْوِسُ) ومُتَعَلِّقِهِ اسْتِعْمالُ اللَّفْظَيْنِ في الحَقِيقَةِ والمَجازِ.

صفحة ٦٣٥

و(مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ بَيانِيَّةٌ بَيَّنَتِ ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ بِأنَّهُ جِنْسٌ يَنْحَلُّ بِاعْتِبارِ إرادَةِ حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ إلى صِنْفَيْنِ: صِنْفٍ مِنَ الجَنَّةِ وهو أصْلُهُ، وصِنْفٍ مِنَ النّاسِ وما هو إلّا تَبَعٌ ووَلِيٌّ لِلصِّنْفِ الأوَّلِ، وجَمَعَ اللَّهُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ في قَوْلِهِ: (﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: ١١٢]) .

ووَجْهُ الحاجَةِ إلى هَذا البَيانِ خَفاءُ ما يَنْجَرُّ مِن وسْوَسَةِ نَوْعِ الإنْسانِ؛ لِأنَّ الأُمَمَ اعْتادُوا أنْ يُحَذِّرَهُمُ المُصْلِحُونَ مِن وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ، ورُبَّما لا يَخْطُرُ بِالبالِ أنَّ مِنَ الوَسْواسِ ما هو شَرٌّ مِن وسْواسِ الشَّياطِينِ، وهو وسْوَسَةُ أهْلِ نَوْعِهِمْ وهو أشَدُّ خَطَرًا، وهم بِالتَّعَوُّذِ مِنهم أجْدَرُ، لِأنَّهم مِنهم أقْرَبُ وهو عَلَيْهِمْ أخْطُرُ، وأنَّهم في وسائِلِ الضُّرِّ أدْخُلُ وأقْدَرُ.

ولا يَسْتَقِيمُ أنْ يَكُونَ (مِن) بَيانًا لِلنّاسِ، إذْ لا يُطْلَقُ اسْمُ النّاسِ عَلى ما يَشْمَلُ الجِنَّ، ومَن زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ أبْعَدَ.

وقُدِّمَ (الجِنَّةِ) عَلى (النّاسِ) هُنا لِأنَّهم أصْلُ الوَسْواسِ كَما عَلِمْتَ بِخِلافِ تَقْدِيمِ الإنْسِ عَلى الجِنِّ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ﴾ [الأنعام: ١١٢]) لِأنَّ خُبَثاءَ النّاسِ أشَدُّ مُخالَطَةً لِلْأنْبِياءِ مِنَ الشَّياطِينِ؛ لِأنَّ اللَّهَ عَصَمَ أنْبِياءَهُ مِن تَسَلُّطِ الشَّياطِينِ عَلى نُفُوسِهِمْ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢] فَإنَّ اللَّهَ أرادَ إبْلاغَ وحْيِهِ لِأنْبِيائِهِ، فَزَكّى نُفُوسَهم مِن خُبْثِ وسْوَسَةِ الشَّياطِينِ، ولَمْ يَعْصِمْهم مِن لِحاقِ ضُرِّ النّاسِ بِهِمْ والكَيْدِ لَهم لِضَعْفِ خَطَرِهِ، قالَ تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠] ولَكِنَّهُ ضَمِنَ لِرُسُلِهِ النَّجاةَ مِن كُلِّ ما يَقْطَعُ إبْلاغَ الرِّسالَةِ إلى أنْ يَتِمَّ مُرادُ اللَّهِ.

والجِنَّةُ: اسْمُ جَمْعِ جِنِّيٍّ بِياءِ النَّسَبِ إلى نَوْعِ الجِنِّ، فالجِنِّيُّ الواحِدُ مِن نَوْعِ الجِنِّ، كَما يُقالُ: إنْسِيٌّ لِلْواحِدِ مِنَ الإنْسِ.

وتَكْرِيرُ كَلِمَةِ (النّاسِ) في هَذِهِ الآياتِ المَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِاعْتِبارِ مَعْنى واحِدٍ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ومِلْكِهِ وإلَهِيَّتِهِ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ

صفحة ٦٣٦

كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَلْوُونَ ألْسِنَتَهم بِالكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ وما هو مِنَ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٧٨] .

وأمّا تَكْرِيرُهُ المَرَّةَ الثّالِثَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي صُدُورِ النّاسِ﴾ فَهو إظْهارٌ لِأجْلِ بُعْدِ المَعادِ.

وأمّا تَكْرِيرُهُ المَرَّةَ الرّابِعَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ فَلِأنَّهُ بَيانٌ لِأحَدِ صِنْفَيِ الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ، وذَلِكَ غَيْرُ ماصَدَقَ كَلِمَةِ (النّاسِ) في المَرّاتِ السّابِقَةِ.

واللَّهُ يَكْفِينا شَرَّ الفَرِيقَيْنِ، ويَنْفَعُنا بِصالِحِ الثَّقَلَيْنِ.

تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ النّاسِ وبِهِ تَمَّ تَفْسِيرُ القُرْآنِ العَظِيمِ.

يَقُولُ مُحَمَّدٌ الطّاهِرُ ابْنُ عاشُورٍ: قَدْ وفَيْتُ بِما نَوَيْتُ، وحَقَّقَ اللَّهُ ما ارْتَجَيْتُ فَجِئْتُ بِما سَمَحَ بِهِ الجُهْدُ مِن بَيانِ مَعانِي القُرْآنِ ودَقائِقِ نِظامِهِ وخَصائِصِ بَلاغَتِهِ، مِمّا اقْتَبَسَ الذِّهْنُ مِن أقْوالِ الأئِمَّةِ، واقْتَدَحَ مِن زَنْدٍ لِإنارَةِ الفِكْرِ وإلْهابِ الهِمَّةِ، وقَدْ جِئْتُ بِما أرْجُو أنْ أكُونَ وُفِّقْتُ فِيهِ لِلْإبانَةِ عَنْ حَقائِقَ مَغْفُولٍ عَنْها، ودَقائِقَ رُبَّما جَلَتْ وُجُوهًا ولَمْ تَجْلُ كُنْهًا، فَإنَّ هَذا مَنالٌ لا يَبْلُغُ العَقْلُ البَشَرِيُّ إلى تَمامِهِ، ومَن رامَ ذَلِكَ فَقَدْ رامَ والجَوْزاءُ دُونَ مَرامِهِ.

وإنَّ كَلامَ رَبِّ النّاسِ حَقِيقٌ بِأنْ يُخْدَمَ سَعْيًا عَلى الرَّأْسِ، وما أدّى هَذا الحَقَّ إلّا قَلَمُ المُفَسِّرِ يَسْعى عَلى القِرْطاسِ، وإنَّ قَلَمِي طالَما اسْتَنَّ بِشَوْطٍ فَسِيحٍ، وكَمْ زُجِرَ عِنْدَ الكَلالِ والإعْياءِ زَجْرَ المَنِيحِ، وإذْ قَدْ أتى عَلى التَّمامِ فَقَدْ حَقَّ لَهُ أنْ يَسْتَرِيحَ.

وكانَ تَمامُ هَذا التَّفْسِيرِ عَصْرَ يَوْمِ الجُمُعَةِ الثّانِي عَشَرَ مِن شَهْرِ رَجَبٍ عامَ ثَمانِينَ وثَلاثِمائَةٍ وألْفٍ، فَكانَتْ مُدَّةُ تَأْلِيفِهِ تِسْعًا وثَلاثِينَ سَنَةً وسِتَّةَ أشْهُرٍ. وهي حِقْبَةٌ لَمْ تَخْلُ مِن أشْغالٍ صارِفَةٍ، ومُؤَلَّفاتٍ أُخْرى أفْنانُها وارِفَةٌ، ومُنازِعَ، بِقَرِيحَةٍ شارِبَةٍ طَوْرًا

صفحة ٦٣٧

وطَوْرًا غارِفَةٍ، وما خَلا ذَلِكَ مِن تَشَتُّتِ بالٍ، وتَطَوُّرِ أحْوالٍ، مِمّا لَمْ تَخْلُ عَنِ الشِّكايَةِ مِنهُ الأجْيالُ، ولا كُفْرانَ لِلَّهِ، فَإنَّ نِعَمَهُ أوْفى، ومَكايِيلَ فَضْلِهِ عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.

وأرْجُو مِنهُ تَعالى لِهَذا التَّفْسِيرِ أنْ يُنْجِدَ ويَغُورَ، وأنْ يَنْفَعَ بِهِ الخاصَّةَ والجُمْهُورَ، ويَجْعَلَنِي بِهِ مِنَ الَّذِينَ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ.

وكانَ تَمامُهُ بِمَنزِلِي بِبَلَدِ المَرْسى شَرْقِيَّ مَدِينَةِ تُونُسَ، وكَتَبَ مُحَمَّدٌ الطّاهِرُ ابْنُ عاشُورٍ.