فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذي حكاه القرآن في قوله : ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله ) .وأصل الهزم في اللغة الكسر .ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف . ويقال للسحاب هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر . والفاء هنا فصيحة أو سببه أي أنهم بسبب دعائهم المخلص ، وإيمانهم القوى ، واستجابتهم لما أمرهم الله به ، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم ويهزموهم ، وقوله ، ( بِإِذْنِ الله ) أي بتوفيقه وتيسيره وتأييده . والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة . ثم قال - تعالى - : ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) أي : وقتل داود بن إيشا - وكان في جيش طالوت - جالوت الذي كان يقود جيش الكفر ، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق ، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة .ثم بين - سبحانه - ما منحه لداود من نعم فقال : ( وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ) والحكمة المراد بها هنا النبوة ، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل ، وورثه فيهما ابنه سليمان - عليه السلام - .أي : وأعطى الله - تعالى - عبده داود ملك بني إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من الملك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال ، وعلمه - سبحانه - مما يشاء من فنون العلم ، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور ، وكلام الدواب ، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته .وفي قوله - تعالى - : ( وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ) بعد الإِخبار بأنه - سبحانه - آتى داود الحكمة ، إشعار بأن الإِنسان لا يستغني عن التعلم سواء أكان نبيا أم لم يكن ، لأن داود - عليه السلام - مع حصولة على النبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يلتمس المزيد من العلم فقال : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عباده فقال : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ) .أي : ولولا أن الله - تعالى - يدفع أهل الباطل بأهل الحق ، لفسدت الأرض ، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم ، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة ، وتعطلت مصالح الناس ، وانتشر الفساد في الأرض .فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود . أي : امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض .فالجملة الكريمة تأمر في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار ، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين ) .أي : ولكن الله - تعالى - صاحب فضل عظيم ، وإنعام كبير على الناس أجمعين ، لأنه وضع لهم هذا التنظيم الحكيم الذي أوجب فيه على المصلحين أن يدافعوا المفسدين ، وأن يقاوموهم بالطريقة التي تمنع فسادهم حتى ولو أدى ذلك إلى رفع السلاح في وجوههم ، لأن السكوت عن فساد المفسدين سيؤدي إلى العقاب الذي يعمهم ويصيب معهم المصلحين .