وقوله ( قَوَّامِينَ ) جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم . والقوام : هو المبالغ فى القيام بالشئ وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه .وقوله ( شُهَدَآءَ ) جمع شهيد بوزن فعيل . والأصل فى هذه الصغية أنها تدل على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم .والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا . كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم فى جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف ، وكونوا " شهداء لله " أى : مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية . ولا لمطمع من المطامع الشخصية ، فإن الإِيمان الحق يسلتزم منكم أن تعدلوا فى أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها .وفى ندائه - سبحانه - لهم بقوله ( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ) تنبيه إلى الأمر الخير الذى ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة فى كل أمورهم ، وتحريك لعاطفة الإِيمان فى قلوبهم بمقتضى وصفهم - بهذه الصفة الجليلة .وعبر - سبحانه - بقوله ( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ) بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشئ ، لتمكين صفة العدالة فى نفوسهم ، وترسيخها فى قلوبهم .فكأنه - سبحانه - يقول لهم : رضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق ، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم ، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم . وسجية من سجاياكم ، فلا يكفى أن تعدلوا فى أحكامكم مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل فى كل الأحوال ، ومع كل الأشخاص .قال صاحب المنار : وهذه العبارة - وهى قوله - تعالى - ( كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط ) أبلغ ما يمكن أن يقال فى تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول : اعدلوا أو اقسطوا . وتقول : كونوا عادلين أو مقسطين . وهذه العبارة أبلغ؛ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإِتيان بالقسط الذى يصدق بمرة .وتقول : أقيموا القسط . وأبلغ منه : كونوا قائمين بالقسط . وأبلغ من هذا وذاك : كونوا قوامين بالقسط . أى : لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم ، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة فى نفوسكم . والقسط يكون فى العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون فى الحكم بين الناس . . .وقوله ( شُهَدَآءَ ) خبر ثان لكونوا . وقوله ( للَّهِ ) متعلق بمحذوف حال من ضمير ( شُهَدَآءَ ) .أى : كونوا ملازمين للعدل فى كل أمروكم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله ، لا لعرض من أعراض الدنيا .قال الفخر الرازى : وإنما قدم - سبحانه - الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه :الأول : أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان فى محل المسامحة وأحسن الحسن .وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة . فالله - تعالى - نبه فى هذه الآية على سوء هذه الطريقة . وذلك أنه - سبحانه - أمرهم بالقيام بالقسط أولا ، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا ، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإِنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير .الثانى : أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الذى عليه الحق . ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير .الثالث : أن القيام بالقسط فعل ، والشهادة قول والفعل أقوى من القول .وقوله ( وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين ) تأكيد للأمر بالتزام الحق فى الأحكام والشهادات .أى : كونوا قوامين بالقسط ، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم - بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك - ولو كانت - أيضا . على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم .قال القرطبى : وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما . ثم ثنى بالأقربين إذهم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه . . . ولا خلاف بين أهل العلم فى صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل . وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، لأنه لم يكن أحد يتهم فى ذلك من السلف . ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم . وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا .و ( لَوْ ) فى قوله ( وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ ) شرطية . والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها . وجواب لو محذوف . والتقدير : ولو كانت الشهادة على أنفسهم فاشهدوا علهيا بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه .وقوله - تعالى - ( إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا ) تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير .أى : إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيراً يترحم عليه فى الغالب ولا يخشى ، فلا تمتنعوا عن الشهادة ، لأن الله - تعالى - هو الأول والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير ، وهو الأعلم بمصالح الناس ، والأرحم بهم منكم . وجواب الشرط محذوف ، أى : إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة فى مصلحتهما .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم ثنى الضمير فى " أولى بهما " وكان حقه أن يوحد؛ لأن قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فى معنى إن يكن أحد هذين؟قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : ( إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً ) لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنى وجنس الفقير .فكأنه قيل : فالله أولى بجنسى الغنى والفقير . أى : بالأغنياء والفقراء . وفى قراءة أبى : فالله أولى بهم وهى شاهدة على ذلك .وقال ابن جرير : نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا اختصم إليه رجلان : غنى وفقير : وكان ضعله - أى ميله - مع الفقير؛ لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى . فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال : ( إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا ) .والذى يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا فى التفاوت فى الحكم . ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس ، لأن الله - تعالى هو الذى نظم الكون بحكمته ، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم ، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان فى هذا الوجود ، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإِنسانية ، لأن ذلك تنظيم الله - تعالى ، وإرادته الخالدة ، وهو الذى يتقف مع الطبيعة الإِنسانية ، إذ العقول متفاوتة ، والعزائم مختلفة ، والأعمال متنوعة ، ونتيجة لذلك كانت لثمار ليست متحدة .والمراد بالهوى فى قوله : ( فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ ) الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء .وقوله ( أَن تَعْدِلُواْ ) فى موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه ، ويكون فى الجملة مضاف مقدر . والمعنى : فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا ، أى : أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل .قال ابن كثير : أى : لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم ، على ترك العدل فى شئونكم . بل ألزموا العدل على أى حال كان . كما قال - تعالى - ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ) ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى . ولأنتم أبغض الخلق إلى . وما يحملنى حيى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .وقوله - تعالى - ( وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل ، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق .قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى الآية قراءتان . فقد قرأ الجمهور ( تَلْوُواْ ) - بواوين قبلهما لام ساكنة - بمعنى الدفع والإِعراض من قولهم : لواه حقه إذا مطله ودفعه .أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشئ إذا فتله .وقرأ ابن عامر وحمزة ( تلوا ) بلام مضمومة بعدها واو ساكنة - من الولاية بمعنى مباشرة الشئ والاشتغال به .والمعنى على قراءة الجمهور : وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه - سبحانه - عليم بدقائق الأشياء ، خبير بخفايا النفوس ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .والمعنى على القراءة الثانية : وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا ، ون تعرضوا عنها وتتركوها بعاقبكم الله عقابا أليما ، فإن الله - تعالى - خبير بكل أقوالكم وأعمالكم . وقيل : إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل ( تلوا ) - وهى قراءة حمزة وابن عامر - تلْووا - وهى قراءة الجمهور - نقلت حركة الواو - فى قراءة الجمهور - إلى الساكن قبلهما فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة ( تلوا ) .هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإِسلامى على أقوى القواعد ، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ . إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط ، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كملة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا فى ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق ، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإِيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار . بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت . ولكن لا بأس ، فإن الموت مع التمسك بالحق ، خير من الحياة فى ظلمات الباطل .