ثم كشف - سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال - تعالى - : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) .والسحت : هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره ، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام .وقد بسط الإِمام القرطبي هذا المعنى فقال : والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة .قال - تعالى - ( فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ) أي : - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب - ويقال للحالق : أسحت أي استأصل . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع . يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطي مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم .وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" " كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال : " الرشوة في الحكم " " .وقال بعضهم : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه . وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها .والمعنى : أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم - أيضا - أنهم كثيروا السماع للكذب ، وكثيروا الأكل للمال الحرام بجميع صورة وألوانه . ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ، ولا تؤمل فيه رشدا .وقوله : ( سماعون ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سماعون . وكرر تأكيدا لما قبله ، وتمهيداً لما بعده وهو قوله : ( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) .وجاءت هاتان الصفتان - سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة ، للإِيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم . فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل :إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت ، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : ( فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) .أي : فإن جاءكم هؤلاء اليهود متحاكمين إليك - يا محمد - في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله - تعالى - يحب العادلين في أحكامهم .والفاء في قوله : ( فَإِن جَآءُوكَ ) للإِفصاح أي : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات ( فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) .وجاء التعبير بإن المفيدة للشك - مع أنهم قد جاءوا إليه - للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه .قال أبو السعود : وقوله : ( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ ) بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما . وتقديم حال الإِعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : ( فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ) من الضر .وكان التعبير بإن أيضا في قوله ( وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ ) للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصاً على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضي بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين .وقوله : ( إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم .يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي عادل ومنه قوله - تعالى - ( إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) .روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :1 - أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن طريق محرم سواها .ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال . وينفرون من الحرام ، بل ومن الشبهات ، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم ، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا .قال ابن جرير : شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية ، فغضب مسروق غضباً شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك . سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، أو يرفع بها ظلما ، فأهدى له ، فقيل ، فهو سحت .وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى الله عليه وسلم : " الرشوة في الحكم " " .وعن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة فإنها سحت . وكان أبوه على شرط المدينة .قال بعض العلماء : والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمة على الراشي والمرتشي . وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والذي يمشي بينهما " لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقاً من جهة أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به . وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة . ومن جهة أنه حكم بالباطل .وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها ، فقد روى عن الحسن أنه قال :" لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه " وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : " لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " .وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة ، أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره ، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف . فقال صلى الله عليه وسلم " اقطعوا لسانه " فزادوه حتى رضى . فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلأى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه .2 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - : ( فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإِعراض عنهم ، وأن حكم التخيير غير منسوخ ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك .ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله - تعالى - بعد ذلك ( وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ) قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم .وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية .أما قوله : ( وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ) فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له .ويرى فريق ثالث من العلماء : أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبني قريظة ، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم :