ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء ثالثا إلى بنى آدم أمرهم فيه بالتمتع بالحلال ، وبزينة الله التى أخرجها لعباده بدون إسراف أو تبذير فقال - تعالى - : ( يابني ءَادَمَ . . . ) .المعنى : عليكم يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا .قال القرطبى : " يا بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ، فإنه عام فى كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " .وقال ابن عباس : " كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . يقولون : لا نطوف فى ثياب عصينا الله فيها " . فأنزل الله - تعالى - : ( يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .ثم أمرهم - سبحانه - أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : ( وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين ) .أى : كلوا من المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا فى زينتكم ولا فى مأكلكم أو مشربكم . لأنه - سبحانه - يكره المسرفين .قال الإمام ابن كثير : " قال بعض السلف : جمع الله الطب فى نصف آية فى قوله : ( وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا ) " وقال البخارى : قال ابن عباس : " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة " .وقد كان السلف الصالح يقفون بين يدى الله فى عبادتهم وهم فى أكمل زينة ، فهذا - مثلا - الإمام الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له؛ يابن بنت رسول الله لم تلبس أجمل ثيابك . فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربى ، لأنه هو القائل : ( خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .وقال الكلبى : " كانت بنو عامر لا يأكلون فى أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل - تعالى - : ( وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا ) .فهذه الآية الكريمة تهدى الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم ، إذ أنها أباحت للمسلم أن يتمتع بالطيبات التى أحلها الله ، ولكن بدون إسراف أو بطر ، ولذا جاء الرد على المتنطعين الذين يضيقون على أنفسهم ما وشعه الله فى قوله - تعالى - بعد ذلك : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ . . . ) .