ثم أخذت السورة بعد ذلك فى إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله ، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله ، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنين الصادقون ، فقال - تعالى - : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ . . . مِنَ المهتدين ) .قال الجمل : وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، منهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيرونهم بالشرك . وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسب قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم .فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له : وهل لكم محاسن؟ قال : نعم . ونحن أفضل منكم . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة - أى نخدمها - ، ونسقى الحجيج ، ونفك العانى - أى الأسير - فنزلت هذه الأية .وقال صاحب المنار : والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذى كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين ، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه فى أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ، بل نزلت فى ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم .وقوله : ( يَعْمُرُواْ ) من العمارة التى هى نقيض الخراب . يقال : عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والاصلاح والزراعة .والمراد بعمارة المساجد ، هنا : ما يشمل إقامة العبادة فيها ، وإصلاح بنائها وخدمتها ، ونظافتها ، واحترامها ، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذى ينبت من أجله .وقوله : ( مَسَاجِدَ الله ) قرأ أبو عمر وابن كثير ( مسجد الله ) بالإِفراد ، فيكون المراد به المسجد الحارم : لأنه أشرف فى المساجد فى الأرض ، ولأنه قلبه المساجد كلها . . فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه .وقرأ الجمهور ( مَسَاجِدَ الله ) بالجمع ، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جميع مضاف فى سياق النفى فيعم سائر المساجد ، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أولياً ، لأن تعميره منط افتخارهم ، وأهم مقاصدهم . وهذه القراءة آكد فى النفى ، لأن نفى الجمع يدل على النفى عن كل فرد ، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك .قوله : ( شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) حال من الواو فى قوله ( يَعْمُرُواْ ) .وفائدة المجئ بهذه الجملة : الأشعار بأن كفرهم كفر صريح ، وأنهم يعترفون به اعترافاً لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره .والمعنى : لا ينبغى ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التى بنيت لعبادته وحده - سبحانه . وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها السنتهم ، وأيدتها أعمالهم .فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بالكفر والاشراك . وهم لا يعملون أعمال المؤمنين ، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التى تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة .قال الفخر الرازى : وذكروا فى تفسيره هذه الشهادة وجوها :الأول - وهو الأصح : أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان ، وتكذيب القرآن ، وإنكار نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - وكل ذلك كفر؛ فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر فى نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة .الثانى . قال السدى : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن .الثالث : أنهم كانوا يطوفون عراة؛ وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام ، وكانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .ثم بين - سبحانه - : فى ختام الآية سوء عاقبتهم فقال ( أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ ) :أى : أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التى كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحاجة والسقاية لأنها مع الكفر ى قيمة لها ، ( وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ ) يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم .