وقد بدأت السورة حديثها عن عزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد ، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى : ( ياأيها الذين آمَنُواْ . . . إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .قال الإِمام ابن كثير : هذا شروع فى عتاب فى عتاب من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال فى شدة الحر ، وحمارة القيظ .وتبوك : اسم لمكان معروف فى أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب ، ويبعد عن المدينة المنور من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر .وكانت غزوة تبوك فى شهر رجب من السنة التاسعة ، وهى آخر غزوة لرسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - .وكان السبب فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغة أن الروم قد جمعوا له جوعا كثيرة على أطارف الشام ، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة .فاستنفر - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى قتال الروم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سراً .ولكنه فى هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهى قتال الروم ، وذلك لبعد المسافة ، وضيق الحال ، وشدة الحر ، وكثرة العدو .وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، وصبروا على الشدائد ، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم ، ولم يتخلف منهم إلا القليل .أما المنافقون وكثير من الأعراب ، فقد تخلفوا عنها ، وحرضوا غيرهم على ذلك ، وحكت السورة . فى كثير من آياتها الآتية . ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال ، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج .وبعد أن وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون إلى تبوك ، لم يجدوا جموعا للروم . فأقاموا هناك بضع عشرة ليلة ، ثم عادوا إلى المدينة .وقوله - سبحانه - : ( انفروا ) من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك .يقال : نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفراً ونفوراً ، إذا خرج بسرعة ويقال : استنفر الإِمام الناس ، إذا حرضهم على الخروج للجهاد . ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا استنفرتم فانفروا " أى : وإذا دعاكم الإِمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل .واسم القوم الذين يخرجون للجهاد : النفير والنفرة والنفر .ويقال : نفر فلان من الشئ ، إذا فزع منه ، وأدبر عنه ، ومنه قوله - تعالى - ( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ) وقوله : ( اثاقلتم ) : من الثقل ضد الخفة . يقال : تثاقل فلان عن الشئ ، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به . . ويقال : تثاقل القوم : إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم . وأصل ( اثاقلتم ) تثاقلتم ، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها ، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن .والمعنى : أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، ( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض ) أى : ما الذى جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد ، حين دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الروم ، وإلى النهوض لإِعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه؟وقد ناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإِيمان الصادق من طاعة الله ولرسوله .والاستفهام فى قوله : ( مَا لَكُمْ ) لإِنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم ، مع أن هذا يتنافى مع الإِيمان والطاعة .قال الجمل : و " ما " مبتدأ ، و " لكم " خبر ، وقوله " اثاقلتم " حال . وقوله : ( إِذَا قِيلَ لَكُمُ ) ظرف لهذه الحال مقدم عليها .والتقدير : أى شئ ثبت لكم من الأعذار . حال كونكم متثاقلين فى وقت قول الرسول لكم : انفوا فى سبيل الله .وقوله ( إِلَى الأرض ) متعلق بقوله : " اثاقلتم " على تضمينه معنى الميل إلى الراحة ، والإِخلاد إلى الأرض ، ولذا عدى بإلى .أى : اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإِقامة بأرضكم ودياركم ، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإِسلام .وإن التعبير بقوله ، سبحانه ، ( اثاقلتم ) لفى أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذى استقر على الأرض . . . والذى كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض .وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها .وقوله ، سبحانه ، : ( أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة ) إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك .وقوله . ( فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة ) بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعنيم الآخرة الدائم :والمعنى : أى شئ حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عندما دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إليه . أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها النقاصة .إن كان أمركم كذلك ، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقى ، ونعيهما الخالد .قال الآلوسى ما ملخصه : " فى " من قوله ( فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة ) تسمى بفى القياسية . لأن المقيص يوضع فى جنب ما يقاس به . وفى ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها . وتجريد الآخرة عن ذلك مثل مبالغة فى بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخر ورفعتها .وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمن ، فلينظر بم ترجع " .وقال الفخر الرازى : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهد فى كل حال ، لأنه ، سبحانه ، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا . وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب فى الوقت الذى يخاف هجوم الكفار فيه ، لأنه عليه اللاسم ، ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم . . وأيضاً هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين . والخطاب فى الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا فى الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .