ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم الخبيثة . . فقال - تعالى - : ( وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ . . . . مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ) .روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبى بكر ، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جهازه - أى لغزوة تبوك - للجد عن قيس اخى بنى سلمة : " هل لك ياجد فى جلاد بنى الأصفر "؟ - يعنى الروم - فقال الجد : يا رسول الله أو تأذن لى ولا تفتنى؟ فهو الله لقد عرف قومى ما رجل أشد عجبا بالنساء منى ، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال قد أذنت لك " " .ففى الجد بن قيس نزلت هذه الآية ( وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ) .أى : ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد " من يقول " لك - يا محمد - " أئنذ لى " فى القعود بالمدينة ، " ولا تفتنى " أى ولا توقعنى فى المعصية والإِثم بسبب خروجى معك إلى تبوك ، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر .وعبر - سبحانه - عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع ، لا ستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله فى نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذا لا يجد من دينه ما نعا من غشيان الشهوات الحرام .وقوله : ( أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ ) رد عليه فيما قال ، وذم له على ما تفوه به .أى : ألا إن هذا وأمثاله فى ذات الفتنة قد سقطوا ، لافى أى شئ آخر مغاير لها .وبدأ - سبحانه - الجملة الكريمة بأداة التنبيه " ألا " ، لتأكيد الخبر ، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين .وقدم الجار والمجرور على عامله؛ لدلالة على الحصر . أى فيها لا فى غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق .قال الآلوسى : وفى التعبير عن الافتتان بالسقوط فى الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديدهم فى دركات الردى أسفل سافلين .وقال الفخرى الرازى ما ملخصه : " وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا فى الفتنة ، فالله - تعالى - بيّن أنهم فى عينا لفتنة واقعون ، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله ، والتمرد على قبول التكاليف التى كلفنا الله بها . . . " .وقوله : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين ) وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم .أى : وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله ، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر .وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال ، لإِفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد .قالوا : ويحتمل أنها محيطة بهم الآن ، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التى سقطوا فيها .