ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، فقال - تعالى - : ( لَقَدْ تَابَ الله على النبي . . . . ) .قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى فى شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول فى ذلك على الترتيب الذى لخصناه فيما سبق ، عاد فى هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، فى تلك الزلات ، فقال - تعالى - : ( لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) .وللعلماء أقوال فى المراد بالتوبة التى تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التى حدثت منهم فى تلك الغزوة أو فى غيرها ، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله :قال ابن عباس : كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين فى القعود ، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك : ( عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . ) وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك .ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : ( تَابَ الله على النبي ) كقوله : ( لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) وكقوله : ( واستغفر لِذَنبِكَ ) وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبى والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . .ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبى . . " أى : أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار . وهذا جواب عما يقال : من أن النبى معصوم من الذبن ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا فى هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة فى حق الجميع دوامها لا أصلها . . " .ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات . وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعانى : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جئ فى ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا فى ذكره - تعالى - فى قوله :( فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) الآية أى : عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين . .ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت فى هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد فى أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها ، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين فى إيمانهم .والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص فى ساعة العسرة . أى فى وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت .وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذى اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها فى مجدبة ، وحر شديد ، وفقر فى الزاد والماء والراحلة .قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية فى غزة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها فى شدة من الأمر ، فى سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر فى الزاد والماء .وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك فى لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً . يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشر عليها جرعة من الماء . . ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم .وقوله : ( مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ) بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى .أى : تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب .وفى ذكر ( فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ) إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد فى قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، وضماء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم .قال الآلوسى ما ملخصه : وفى " كاد " ضمير الشأن و " قلوب " فاعل " يزيغ " والجملة فى موضع الخبر لكاد . . وهذا على قراءة " يزيغ " بالياء ، وهى قراءة حمزة ، وحفص والأعمش .وأما على قراء " تزيغ " بالتاء ، وهى قراءة الباقين . فيحتمل أن يكون " قلوب " اسم كان " وتزيغ " خبرها ، وهي ضمير يعود على اسمها .وقوه : ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم . ولطفه بهم .أى : ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس . إنه بهم رءوف رحيم .قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار؟قلت : إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) تأكيدا لذلك . والرأفة عبارة عن السعى فى إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى فى إيصال النفع .وقال القرطبى : قوله ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ) قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم .قال الشاعر :منك أرجوا ولست أعرب ربا ... يرتجى منه بعض ما منك أرجووإذا اشتدت الشدائد فى الأر ... ض على الخلق فاستغاثوا وعجواوابتليت العباد بالخوف والجو ... ع ، وصروا على الذنوب ولجوالم يكن لى سواك ربى ملاذ ... فتيقنت أننى بك أنجو