ثم ساق - سبحانه - مثلا لمتاع الحياة الدنيا والزائل ، ولزخرفها الفانى ، فقال - تعالى - :( إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ . . . )قوله - سبحانه - ( إِنَّمَا مَثَلُ . . . ) المثًل بمعنى المِثْل ، والمِثْل : النظير والشبيه ، ثم اطلق على القول السائر بالمعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده الذى ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ، ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذاكان لها شأن عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها .والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفي ، وتقريب الشيء المعقول من الشىء المحسوس ، وعرض الأمر الغائب فى صورة المشاهد ، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب ، وأثبت فى النفوس .والمعنى : إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها ، وانصرام نعيمها بعد إقباله . كحال ماء ( أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض ) أى : فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه .وشبه - سبحانه - الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض ، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص - بخلاف ماء الأرض - فكان تشبيه الحياة به أنسب .وقوله : ( مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام ) معناه : وهذا النبات الذى نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء ، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه . وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة .وجملة ( مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام ) حال من النبات .وقوله : ( حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت . . ) تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها ، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج .ولفظ ( حتى ) غاية لمحذوف : أي نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذى ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها .والزخرف : الذهب وكمال حسن الشيء . ومن القول أحسنه ، ومن الأرض ألوان نباتها .أى : حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها ، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة ، والأولان المتعددة .قال صاحب الكشاف : " وهو كلام فصيح . جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها ، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة ، أصل ازينت تزينت " .وقوله : ( وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ ) أي : وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة . أنهم قادرون على قطف ثمارها ، ومتمكنون من التمتع بخيراتها ، ومن الانتفاع بغلاتها .وقوله : ( أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً . . ) تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه و ( أو ) للتنويع أي : تارة يأتي ليلا وتارة يأتي نهارا .والجملة الكريمة جواب إذا في قوله ( حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا . . ) .أى : بعد أن بلغت الأرض الذروة فى الجمال وفى تعلق الآمال بمنافع زروعها ، أتاها قضاؤنا النافذة ، وأمرنا المقدر لإِهلاكها بالليل وأصحابها نائمون ، أو بالنهار وهم لا هون ، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة ، التي استؤصل زرعها .وقوله : ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ) تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة .أي : جعلناهها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها ، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب : الزرع النضير ، والنبات البهيج ، الباسق ، والطلع النضيد .قال القرطبى قوله : ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ) أي : لم تكن عامرة . من غني بالمكان إذا أقام فيه وعمره ، والمغانى فى اللغة : المنازل التى يعمرها الناس .وقال ابن كثير : قوله : ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ) أي كأنها ما كانت حينا قبل ذلك ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكنن ولهذا جاء فى الحديث الشريف : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس فى النار غمسة فيقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا . ويؤتى بأشد الناس عذابا فى الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط فيقول لا " .والمراد بالأمس هنا : الوقت الماضى القريب : لا خصوص اليوم الذى قبل يومك .وقوله : ( كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار .أى : كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا ، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض .قال الجمل ما ملخصه : " وهذه الآية مثل ضربه الله - تعالى - للمتشبث فى الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها . . ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التى ينتفع بها المرء ، كناية عن هذا النبات الذى لما عظم الرجاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها " .