ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين وأشباههم ، فتصور أحوالهم ، وتبين سوء مصيرهم ، وتكشف القناع عن الأسباب التى أدت بهم إلى الخسران والهلاك فقال - تعالى - : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى . . . ) .الاستفهام فى قوله - تعالى - : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ . . ) للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين ، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم ، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين .أى : ألم ينته إلى علمك - أيها الرسول الكريم - حال أولئك المنافقين ، الذين اتخذوا اليهود أولياء ، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم .فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : اليهود ، ووصفهم بذلك للتنفير منهم ، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية فى القبح والسوء ، حيث وَالَوْا وناصروا من غضب الله عليهم ، لا من رضى الله عنهم .ثم دمغ - سبحانه - هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال : ( مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ ) أى : أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا ، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم - أيها المؤمنون - وليسوا - أيضا - منهم ، أى : من اليهود .وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة ، فهم كما قال - سبحانه - ( مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء . . . ) وفى الحديث الشريف : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين - أى المترددة ين قطيعين - لا تدرى أيهما تتبع " .قال الجمل : وقوله : ( مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ ) فيه أوجه . أحدها : أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص ، بل هم كقوله - تعالى - : ( مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك . . . ) والضمير فى قوله ( مَّا هُم ) يعود على المنافقين ، وفى قوله ( مِنْهُمْ ) يعود على اليهود .الثانى : أنها حال من فاعل " تولوا " والمعنى على ما تقدم .الثالث : أنها صفة ثانية لقوله " قوما " ، وعليه يكون الضمير فى قوله :" ما هم " يعود على اليهود ، والضمير فى قوله : " منهم " يعود على المنافقين .يعنى : أن اليهود ليسوا منكم - أيها المؤمنون - ولا من المنافقين . ومع ذلك تولاهم " المنافقون " . . . إلا أن فى هذا الوجه تنافرا بين الضمائر ، فإن الضمير فى " ويحلفون " عائد على المنافقين ، وعلى الوجيهن الأولين تتحد الضمائر " .ثم دمغهم - سبحانه - برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال : ( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .أى : أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين ، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة ، لا من دين ولا من نسب . . . وفضلا عن كل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع ، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم هؤلاء المنافقين . بجملة من الصفات القبيحة ، التى على رأسها تعمدهم الكذب ، وإصرارهم عليه .قال صاحب الكشاف : " قوله : ( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب ) أى : يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذى هو ادعاء الإسلام ، ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؟ قلت : الكذب أن يكون لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أم لم يعلم . . . فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك معتدون له ، كمن يحلف بالغموس . . " .وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : " أنها نزلت فى رجل يقال له : عبد الله بن نَبْتَل - وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرفعون حديثه إلى اليهود ، وفى يوم من الأيام كان - صلى الله عليه وسلم - جالسا فى إحدى حجراته ، فقال لمن حوله : " يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار ، وينظر بعينى شيطان " فدخل ابن نبتل ، - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " علام تشتمنى أنت وأصحابك "؟فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال له النبى - صلى الله علي وسلم - : " فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه " ، فنزلت هذه الآية .ومن الآيات الكثيرة التى صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله - تعالى - : ( وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).