ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين ، حيث نصرهم على أعدائهم ، فقال : ( هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر . . ) .والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا : يهود بنى النضير ، وقصتهم معروفة فى كتب السنة والسيرة ، وملخصها : أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون فى ضواحى المدينة فذهب إليهم النبى - صلى الله عليه وسلم - ليستعين بهم فى دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ ، فاستقبلوه استقبالا حسنا ، وأظهروا له - صلى الله عليه وسلم - استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه خطأ ، فاستقبلوه استقبالا حسنا ، وأظهروا له - صلى الله عليه وسلم - استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم ، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذى يجلس تحته محمد - صلى الله عليه وسلم - فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه .فتعهد واحد منهم بذلك ، وقبل أن يتم فعله ، نزل جبريل - عليه السلام - على النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير ، ونزل قوله - تعالى - : ( يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ) ثم أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يستعدوا لحصار بنى النضير ، وتأديبهم على غدرهم . . . فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة ، وانتهى الأمر بإجلائهم ، عن المدينة ، فمنهم من ذهب إلى خبير ، ومنهم من ذهب إلى غيرها .واللام فى قوله - تعالى - : ( لأَوَّلِ الحشر ) متعلقة بأخرج ، والحشر : الجمع ، يقال : حشر القائد جنده إذا جمعهم ، ومنه قوله - تعالى - : ( وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ ) أى : هو - سبحانه - الذى أخرج - بقدرته - الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، وهم يهود بنى النضير عند مبدا الحشر المقدر لهم فى علمه ، بأن مكنكم - أيها المؤمنون - من محاصرتهم وجمعهم فى مكان واحد ، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى ، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم .قال صاحب الكشاف : اللام فى قوله : ( لأَوَّلِ الحشر ) تتعلق بأخرج ، وهى مثل اللام فى قوله : ( ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) وفى قولك : جئته لوقت كذا . . .والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . ومعنى أول الحشر : أن هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط . . . أو المعنى : هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم : إجلاء عمر - رضى الله عنه - لهم من خيبر إلى الشام .وقيل معناه : أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .وقصر - سبحانه - إخراجهم عليه فقال : هو الذى أخرج الذين كفروا ، مع أن المسلمين قد اشتركوا فى إخراجهم عن طريق محاصرتهم؛ للإشعار بأن السبب الحقيقى فى إخراجهم من ديارهم ، هو ما قذفه الله - تعالى - فى قلوبهم من الرعب . . . أما محاصرة المؤمنين لهم فهى أسباب فرعية ، قد تؤدى إلى أخراجهم ، وقد لا تؤدى ، وللإشعار - أيضا - بأن كل شىء إنما هو بقضاء الله وقدره .ووصفهم - سبحانه - بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب ، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم ، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين : رذيلة الكفر بالحق ، ورذيلة عدم العلم بكتابهم الذى أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل ، والذى يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .و " من " فى قوله - تعالى - : ( مِنْ أَهْلِ الكتاب ) للبيان ، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا ، مشركو قريش ، وإن كان الجميع يشتركون فى الكفر والفسوق والعصيان .وقوله - تعالى - : ( مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ . . . ) تذكير للمؤمنين بنعم الله - تعالى - عليهم .أى : ما ظننتم - أيها المؤمنون - أن يهود بنى النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة ، وذلك لتملكهم لألوان من القوة ، كقوة السلاح ، وكثرة العدد ، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم فى المدينة ، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم ، كبنى قريظة وغيرهم ، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم .وقوله : ( وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله ) معطوف على ما قبله .أى : أنتم - أيها المؤمنون - ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة ، وهم - أيضا - ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم ، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها ، ونَصْرِكم عليهم .وقوله - سبحانه - : ( فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب . . ) متفرع عن الظن السابق ، الذى ظنه المؤمنون ، والذى ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير .أى : أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم ، وهم ظنوا - أيضا - أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم ، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال ، بأن قذف فى قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التى تمنعوا بها ، ومن ديارهم التى سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء .والتعبير بقوله : ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ) إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة ، لم يكونوا يتوقعونها أصلا ، إذ الاحتساب مبالغة فى الحسبان ، أى : أتاهم عقاب الله - تعالى - من المكان الذى كانوا يعتقدون أمانهم فيه ، وفى زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده .وعبر - بحانه - بالقذف ، لأنه كناية عن الرمى بقوة وعنف وسرعة . والرعب : شدة الخوف والفزع ، وأصله : الامتلاء . تقول : رعبت الحوض إذا ملأته .أى : وقذف - سبحانه - فى قلوبهم الرعب الذى ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم .ثم ين - سبحانه - ما حدث منهم خلال جلائهم فقال : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ) والتخريب : إسقاط البناء وهدمه أو إفساده .أى : أن هؤلاء اليهود ، بلغ من سوء نيتهم ، ومن اضطراب أمرهم ، أنهم عندما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة ، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم ، عن طريق إسقاط بنائها ، وهدم السليم منها ، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها . . . حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم . .وأخذوا يخربونها - أيضا - بأيدى المؤمنين ، أى : بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم ، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج ، ليستطيعوا التمكن منهم .قال صاحب الكشاف : ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت : لما عرَّضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه . فكأنهم أمروهم به ، وكلفوهم إياه . .أى : أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم فى ديارهم ، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج ، ليدخلوا عليهم . . .والخطاب فى قوله - تعالى - : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) لكل من يصلح له .قال الجمل فى حاشيته : والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شىء إلى شىء ، ولهذا سميت العبرة عبرة ، لأنها تنتقل من العين إلى الخد . وسمى علم التعبير بذلك ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعانى من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل بواسطه عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه .ولهذا قال القشيرى : الاعتبار هو النظر فى حقائق الأشياء ، وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر .أى : إذا كان الأمر كان بينا لكم - أيها الناس - ، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة ، والعيون الناظرة ، بما جرى لهؤلاء اليهود ، حيث دبر الله - تعالى - أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما ، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق ، وجعل ديارهم من بعدهم ، خير عبرة وعظة لكل ذى بصر ، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران . . . وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد . . .قال الآلوسى : واشتهر الاستدلال بهذه الجملة ، على مشروعية العمل بالقياس الشرعى ، قالوا : لأنه - تعالى - أمر فيها بالاعتبار ، وهو العبور والانتقال من الشىء إلى غيره ، وذلك متحقق فى القياس ، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع .