وبعد أن بين - سبحانه - حكم النساء المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أتبع ذلك بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بمبايعتهن وغيرهن على عدم الإشراك بالله تعالى - ، وعلى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقال - تعالى - : ( ياأيها النبي . . . ) .هذه الآية الكريمة ، اشتملت على أحكام متممة للأحكام المشتملة عليها الآيتان السابقتان عليها .فكأن الله - تعالى - يقول : ( إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ) وبايعهن أيها الرسول الكريم على إخلاص العبادة لله - تعالى - .قال القرطبى ما ملخصه : وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت : " كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحن بهذه الآية . . . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انطلقن فقد بايعتكن " " .ولا والله ما مست يَدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَ امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام . . . وما مست كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كف امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن : " قد بايعتكن كلاما " .والمعنى : ( ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ ) أى : مبايعات لك ، أو قاصدات مبايعتك ، ومعاهدتك على الطاعة لما تأمرهن به ، أو تنهاهن عنه .وأصل المبايعة : مقابلة شىء بشىء على سبيل المعاوضة . وسميت المعاهدة مبايعة ، تشبيها لها بها ، فإن الناس إذا التزموا قبول ما شرط عليهم من التكاليف الشرعية ، - طمعا فى الثواب ، وخوفا من العقاب ، وضمن لهم - صلى الله عليه وسلم - ذلك فى مقابلة وفائهم بالعهد - صار كأن كل واحد منهم باع ما عنده فى مقابل ما عند الآخر .والمقتضى لهذه المبايعة بعد الامتحان لهن ، أنهن دخلن فى الإسلام ، بعد أن شرع الله - تعالى - ما شرع من أحكام وآداب . . فكان من المناسب أن يأخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهن العهود ، بأن يلتزمن بالتكاليف التى كلفهن الله - تعالى - بها .ثم بين - سبحانه - ما تمت عليه المبايعة فقال : ( على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ) أى : يبايعنك ويعاهدنك على عدم الإشراك بالله - تعالى - فى أى أمر من الأمور التى تتعلق بالعقيدة أو بالعبادة أو بغيرهما .( وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ ) . أى ويبايعنك - أيضا - على عدم ارتكاب فاحشة السرقة ، أو فاحشة الزنا ، فإنهما من الكبائر التى نهى الله - تعالى - عنها .( وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ) أى : ويبايعنك كذلك ، على عدم قتلهن لأولادهن .والمراد به هنا : النهى عن قتل البنات ، وكان ذلك فى الجاهلية يقع تارة من الرجال ، وأخرى من النساء ، فكانت المرأة إذا حانت ولادتها حفرت حفرة ، فولدت بجانبها ، فإذا ولدت بنتا رمت بها فى الحفرة ، وسوتها بالتراب ، وإذا ولدت غلاما أبقته .قال ابن كثير : وقوله ( وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحبل ، إما لغرض فاسد ، أو ما أشبهه .وقوله : ( وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) معطوف على ما قبله وداخل تحت النهى .والبهتان : الخبر الكاذب الصريح فى كذبه ، والذي يجعل من قيل فيه يقف مبهوتا ومتحيرا من شدة أثر هذا الكذب السافر .والافتراء : اختلاق الكذب واختراع الشخص له من عند نفسه .وللمفسرين فى معنى هذه الجملة الكريمة أقوال ، منها : أن المرأة فى الجاهلية كانت تلتقط المولود وتقول لزوجها : هذا ولدى منك ، فذلك هو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، لأن الولد إذا وضعته الأم ، سقط بين يديها ورجليها .ويرى بعضهم أن معنى الجملة الكريمة : ولا تأتوا بكذب شنيع تختلقونه من جهة أنفسكم ، فاليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما ، ولذا قيل لمن ارتكب جناية قولية أو فعلية : هذا جزاء ما كسبت يداك .وقوله - سبحانه - ( وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) من الأقوال الجامعة لكل ما يخبر به النبى - صلى الله عليه وسلم - ويأمر بفعله ، أو ينهى عن الاقتراب منه .ويشمل ذلك النهى عن شق الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات التى نهى الإسلام عنها .وقوله - سبحانه - : ( فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله ) جواب ( إِذَا ) التى فى أول الآية .أى : إذا جاءك المؤمنات قاصدات لمبايعتك على الالتزام بتعاليم الإسلام ، فبايعهن على ذلك . . . واستغفر لهن الله - تعالى - عما فرط منهن من ذنوب ، . ( إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أى : إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين .وهذه المبايعة يبدو أنها وقعت منه - صلى الله عليه وسلم - للنساء أكثر من مرة : إذ مها ما وقع فى أعقاب صلح الحديبية ، بعد أن جاءه بعض النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام ، كما حدث من أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، ومن سُبَيْعَةَ الأسلمية ، ومن أميمة بنت بشر ، ومن غيرهن من النساء اللائى تركن أزواجهن الكفار ، وهاجرن إلى دار الإسلام .ومنها ما وقع فى أعقاب فتح مكة ، فقد جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد فتحها نساء من أهلها ليبايعنه على الإسلام .قال الآلوسى : والمبايعة وقعت غير مرة ، ووقعت فى مكة بعد الفتح ، وفى المدينة .وممن بايعنه - صلى الله عليه وسلم - فى مكة ، هند بنت عتبة ، زوج أبى سفيان . . . فقرأ عليهن - صلى الله عليه وسلم - الآية ، فلما قال : ( وَلاَ يَسْرِقْنَ ) قالت : والله إنى لأصيب الهنة من مال أبى سفيان ولا أدرى أيحل لى ذلك؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شىء فيما مضى فهو حلال لك .. فلما قرأ - صلى الله عليه وسلم - ( وَلاَ يَزْنِينَ ) قالت : أو تزنى الحرة . . ؟فلما قرأ ( وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ) قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا . وفى رواية أنها قالت : قتلتَ الآباء وتوصينا بالأولاد .فلما قرأ - صلى الله عليه وسلم - : ( وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان ) قالت : والله إن البهتان لقبيح ، ولا يأمر الله - تعالى - إلا بالرشد ومكارم الأخلاق .فلما قرأ ( وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفى أنفسنا أن نعصيك فى شىء .والتقييد بالمعروف ، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا به ، للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق فى معصية الخالق .وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر فى حقهن ، لكثرة وقوعها فيما بينهن .وقد ذكر الإمام ابن كثير ، جملة من الأحاديث التى تدل على أن هذه البيعة قد تمت فى أوقات متعددة ، وفى أماكن مختلفة ، وأنها شملت الرجال والنساء .ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام أحمد عن سلمى بنت قيس - إحدى نساء بنى عدى بن النجار - قالت : " جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبايعه ، فى نسوة من الأنصار ، فشرط علينا : ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزنى ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه فى معروف . . . ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " ولا تغششن أزواجكن " . قالت : فبايعناه ، ثم انصرفنا .فقلت لامرأة منهن : ارجعى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسليه : ما غش أزواجنا؟ فسألته فقال : " تأخذ ماله فتحابى به غيره " " .وفى الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى مجلس فقال : بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم . . . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " .