﴿ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقِيامِ اللَّيْلِ، أيْ: رَتِّلْ قِراءَتَكَ في القِيامِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أمْرًا مُسْتَقِلًّا بِكَيْفِيَّةِ قِراءَةِ القُرْآنِ جَرى ذِكْرُهُ بِمُناسَبَةِ الأمْرِ بِقِيامِ اللَّيْلِ، وهَذا أوْلى؛ لِأنَّ القِراءَةَ في الصَّلاةِ تَدْخُلُ في ذَلِكَ. وقَدْ كانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ في أوَّلِ العَهْدِ بِنُزُولِ القُرْآنِ فَكانَ جُمْلَةُ القُرْآنِ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سُورَتَيْنِ أوْ ثَلاثِ سُوَرٍ بِناءً عَلى أصَحِّ الأقْوالِ في أنَّ هَذا المِقْدارَ مِنَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ، وفي أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِن أوائِلِ السُّوَرِ، وهَذا مِمّا أشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: ٥] أيْ: سَنُوحِي إلَيْكَ قُرْآنًا.
فَأمَرَ النَّبِيءَ ﷺ أنْ يَقْرَأ القُرْآنَ بِمَهَلٍ وتَبْيِينٍ.
والتَّرْتِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُرَتَّلًا، أيْ: مُفَرَّقًا، وأصْلُهُ مِن قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وهو المُفَلَّجُ الأسْنانِ، أيْ: المُفَرَّقُ بَيْنَ أسْنانِهِ تَفْرِيقًا قَلِيلًا بِحَيْثُ لا تَكُونُ النَّواجِذُ مُتَلاصِقَةً. وأُرِيدَ بِتَرْتِيلِ القُرْآنِ تَرْتِيلُ قِراءَتِهِ، أيْ: التَّمَهُّلُ في النُّطْقِ بِحُرُوفِ القُرْآنِ حَتّى تَخْرُجَ مِنَ الفَمِ واضِحَةً مَعَ إشْباعِ الحَرَكاتِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الإشْباعَ. ووَصَفَتْ عائِشَةُ التَّرْتِيلَ فَقالَتْ: لَوْ أرادَ السّامِعُ أنَّ يَعُدَّ حُرُوفَهُ لَعَدَّها لا كَسَرْدِكم هَذا.
وفائِدَةُ هَذا أنْ يَرْسَخَ حِفْظَهُ ويَتَلَقّاهُ السّامِعُونَ فَيَعْلَقَ بِحَوافِظِهِمْ، ويَتَدَبَّرَ قارِئُهُ وسامِعُهُ مَعانِيَهُ كَيْ لا يَسْبِقَ لَفْظُ اللِّسانِ عَمَلَ الفَهْمِ. قالَ قائِلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: قَرَأْتُ المُفَصَّلَ في لَيْلَةٍ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذا كَهَذِّ الشِّعْرِ؛؛ لِأنَّهم كانُوا إذا أنْشَدُوا القَصِيدَةَ أسْرَعُوا لِيَظْهَرَ مِيزانُ بَحْرِها، وتَتَعاقَبَ قَوافِيها عَلى الأسْماعِ. والهَذُّ: إسْراعُ القَطْعِ.
وأُكِّدَ هَذا الأمْرُ بِالمَفْعُولِ المُطْلَقِ لِإفادَةِ تَحْقِيقِ صِفَةِ التَّرْتِيلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (أوُ انْقُصْ) بِضَمِّ الواوِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ عِنْدَ سُقُوطِ هَمْزَةِ الوَصْلِ، حَرَّكُوا الواوَ بِضَمَّةٍ لِمُناسَبَةِ ضَمَّةِ قافِ (انْقُصْ) بَعْدَها. وقَرَأهُ حَمْزَةُ وعاصِمٌ بِكَسْرِ الواوِ عَلى الأصْلِ في التَّخَلُّصِ مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ.
صفحة ٢٦١
ووَقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ﴾ إذا شَبَّعَتْ فَتْحَةَ نُونِ القُرْآنِ مُحَسِّنَ الِاتِّزانِ بِأنْ يَكُونَ مِصْراعًا مِن بَحْرِ الكامِلِ أحَذَّ دَخَلَهُ الإضْمارُ مَرَّتَيْنِ.