You are reading tafsir of 3 ayahs: 72:1 to 72:3.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْجِنِّ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَهِيَ ثمان وعشرون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُمَّتِكَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ اسْتَمَعَ إِلَيَّ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ أَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ "أُحِيَ" [[في الأصول (وحى)، والصواب ما أثبتناه وهو موافق لما جاء في (تاج العروس: وحى) قال: وقرا جوية الأسدي: (قل أحى إلي) ولم ينسب القراءة لابن أبي عبلة.]] عَلَى الْأَصْلِ، يُقَالُ: أَوْحَى إِلَيْهِ وَوَحَى، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات: ١١] وَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الْمُطْلَقِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ. وَقَدْ أَطْلَقَهُ الْمَازِنِيُّ فِي الْمَكْسُورَةِ أَيْضًا كَإِشَاحٍ [[لفظ (أشاح) ساقط من الأصل المطبوع.]] وَإِسَادَةٍ وَ "إِعَاءِ أَخِيهِ" وَنَحْوِهِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ هَلْ رَآهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْ لَا؟ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَمَعَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ [[اللفظ لمسلم وأما الترمذي ففي لفظه زيادة.]] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ! قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا من شي حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؟ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ [[كذا في ا، ح، ط وهو الصواب.]] عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [[في ح: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى قرآنا عجبا) .. إلخ.]]. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَوْلُ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ فَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ [[في ح: (ويسجدون معه .. ).]]: تَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: ١٩]. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرَ الْجِنَّ وَلَكِنَّهُمْ حَضَرُوهُ، وَسَمِعُوا قِرَاءَتَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ حِينَ تَجَسَّسُوا الْخَبَرَ بِسَبَبِ الشَّيَاطِينِ لَمَّا رُمُوا بِالشُّهُبِ. وَكَانَ الْمَرْمِيُّونَ بِالشُّهُبِ مِنَ الْجِنِّ أَيْضًا. وَقِيلَ لَهُمْ شَيَاطِينُ كَمَا قَالَ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الانعام: ١١٢] فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ وَخَارِجٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْوَحْيِ فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فِيهَا [[كلمة (فيها) ساقطة من الأصل المطبوع.]]، فَيَكُونُ بَاطِلًا. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: مَا هَذَا الْأَمْرُ [[كلمة (الامر) ساقطة من الأصل المطبوع.]] إِلَّا مِنْ [[في ط (عن) في موضع (من).]] أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الأرض! فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ- أَرَاهُ قال بمكة- فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحدث [[كلمة (الحدث) ساقطة من الأصل المطبوع.]] الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ رُمُوا كَمَا رُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ. وَفِي رِوَايَةِ السُّدِّيِّ: إِنَّهُمْ لَمَّا رُمُوا أَتَوْا إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: إِيتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا فَأَتَوْهُ فَشَمَّ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ. فَبَعَثَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، قِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ مِنْهُمْ زَوْبَعَةُ. وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَدِمَ رَهْطُ زَوْبَعَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ. وقال الثمالي: أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي الشَّيْصَبَانِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْجِنِّ عَدَدًا وَأَقْوَاهُمْ شَوْكَةً وَهُمْ عَامَّةُ جُنُودِ إِبْلِيسَ. وَرَوَى أَيْضًا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ: أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَحَكَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ (قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ غَيْرُ الَّتِي بِالْعِرَاقِ) [[لم نجد نصيبين التي ذكرها المؤلف في معجم ما استعجم للبكري ولا في معجم البلدان لياقوت ولا فيما نقله صاحب تاج العروس عن ياقوت.]]. وَقِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ الَّذِينَ أَتَوْا مَكَّةَ جِنُّ نَصِيبِينَ، وَالَّذِينَ أَتَوْهُ بِنَخْلَةَ جِنُّ نِينَوَى. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ (الْأَحْقَافِ) [[راجع ج ١٦ ص (٢١١)]]. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالسُّورَةُ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ "الْأَحْقَافِ" التَّعْرِيفُ بِاسْمِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ وَهُوَ أَثْبَتُ، رَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا اسْتُطِيرَ [[في التاج: استطير فلان: ذعر.]] أَوِ اغْتِيلَ، قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إذا هو يجئ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَدْنَاكَ وَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ: [أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فذهبت معه فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ [فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: (لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَفُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ شَاهَدَهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دُفْعَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِمَكَّةَ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالثَّانِيَةُ بِنَخْلَةَ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِي حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعَتِ الْجِنُّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ ﷺ وَعَلِمَتْ بِحَالِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَهُمْ كَمَا حَكَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ مَرَّةً أُخْرَى فَذَهَبَ مَعَهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ كَمَا حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَإِنَّمَا سَارَ مَعَهُ حِينَ انْطَلَقَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ يُرِيهِ آثَارَ الْجِنِّ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ "الْأَحْقَافِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: "أمرت أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ فَمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ " فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَا أَذْهَبُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى جَاءَ الْحَجُونَ عِنْدَ شِعْبِ أَبِي دُبٍّ [[شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي ﷺ.]] فَخَطَّ عَلَيَّ خَطًّا فَقَالَ: (لَا تُجَاوِزْهُ) ثُمَّ مَضَى إِلَى الْحَجُونَ فَانْحَدَرَ عَلَيْهِ أَمْثَالُ الْحَجَلِ يَحْدُرُونَ [[يحدرون الحجارة بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل.]] الْحِجَارَةَ بِأَقْدَامِهِمْ، يَمْشُونَ يَقْرَعُونَ فِي دُفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دُفُوفِهَا، حَتَّى غَشَوْهُ فَلَا أَرَاهُ، فَقُمْتُ فَأَوْمَى إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ، فَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ، وَلَصِقُوا بِالْأَرْضِ حَتَّى مَا أَرَاهُمْ، فَلَمَّا انْفَتَلَ إِلَيَّ قَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَأْتِيَنِي"؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "مَا كَانَ ذَلِكَ لَكَ، هَؤُلَاءِ الْجِنُّ أَتَوْا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَزَوَّدْتُهُمُ الْعَظْمَ وَالْبَعْرَ فَلَا يَسْتَطِيبَنَّ أَحَدُكُمْ بِعَظْمٍ وَلَا بعر".
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ جَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ. وَفِي رِوَايَةٍ: انْطَلَقَ بِي عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِذَا جِئْنَا الْمَسْجِدَ الَّذِي عِنْدَ حَائِطِ عَوْفٍ خَطَّ لِي خَطًّا، فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ أَصْحَابُنَا كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الزُّطِّ [[الزط: جنس من الهنود لونهم ضارب إلى السواد.]] وَكَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَكَاكِيُّ [[المكاكي: جمع مكوك وهو طاس يشرب فيه أعلاه ضيق ووسطه واسع ومكيال معروف لأهل العراق بهذه الصفة أيضا. ولعله من باب قول العرب: ضرب مكوك رأسه على التشبيه.]]، فَقَالُوا: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: "أَنَا نَبِيُّ اللَّهِ" قَالُوا: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: "هَذِهِ الشَّجَرَةُ" فَقَالَ: "يَا شَجَرَةُ" فَجَاءَتْ تَجُرُّ عُرُوقَهَا، لَهَا قَعَاقِعُ حَتَّى انْتَصَبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: [عَلَى مَاذَا تَشْهَدِينَ [قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَرَجَعَتْ كَمَا جَاءَتْ تَجُرُّ بِعُرُوقِهَا الْحِجَارَةَ، لَهَا قَعَاقِعُ حَتَّى عَادَتْ كَمَا كَانَتْ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى حِجْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ: [هَلْ مِنْ وَضُوءٍ [قَالَ: لَا، إِلَّا أَنَّ مَعِي إِدَاوَةً فِيهَا نَبِيذٌ. فَقَالَ: [هَلْ هُوَ إِلَّا تَمْرٌ وماء [فتوضأ منه. قد الثَّالِثَةُ- قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَاءِ فِي سُورَةِ "الْحِجْرِ" [[راجع ج ١٠ ص ١٥ فما.]] وَمَا يُسْتَنْجَى بِهِ فِي سُورَةِ "بَرَاءَةَ" [[راجع ج ٨ ص ٢٥٩ فما.]] فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فِي أَصْلِ الْجِنِّ، فَرَوَى إِسْمَاعِيلُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْجِنَّ وَلَدُ إِبْلِيسَ، وَالْإِنْسَ وَلَدُ آدَمَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَافِرًا فَهُوَ شَيْطَانٌ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِنَّ هُمْ وَلَدُ الْجَانِّ وَلَيْسُوا بِشَيَاطِينَ، وَهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُ، وَالشَّيَاطِينُ هُمْ وَلَدُ إِبْلِيسَ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا مَعَ إِبْلِيسَ. وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ الْجَنَّةَ، عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهِمْ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مِنَ الْجَانِّ لَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ قَالَ: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِإِيمَانِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ فَلَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ يَدْخُلُونَهَا. الثَّانِي- وَهُوَ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ لَا يَدْخُلُونَهَا وَإِنْ صُرِفُوا عَنِ النَّارِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ "الرَّحْمَنِ" [[راجع ج ١٧ ص ١٨١.]] عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٥٦] بَيَانُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا. الْخَامِسَةُ- قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ فَقَالَ: [لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَطْعَمُونَ. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ كَفَرَةِ الْأَطِبَّاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجِنَّ، وَقَالُوا: إِنَّهُمْ بَسَائِطُ، وَلَا يَصِحُّ طَعَامُهُمْ، اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسِيطٌ مُرَكَّبٌ مُزْدَوَجٌ، إِنَّمَا الْوَاحِدُ الْوَاحِدُ [[الواحد الواحد: كذا في بعض الأصول وفي بعضها بلا تكرار. وفي الشوكاني:- إنما الواحد الله سبحانه.]] سُبْحَانَهُ، وَغَيْرُهُ مُرَكَّبٌ وَلَيْسَ بِوَاحِدٍ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ حَالُهُ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فِي صُوَرِهِمْ كَمَا يَرَى الْمَلَائِكَةَ. وَأَكْثَرُ مَا يَتَصَوَّرُونَ لَنَا فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ رَجُلًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ... الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ". وَقَالَ: "اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ" [[هذا ينبغي أن يكون قبل الحديث السابق له كما في ابن العربي.]] وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٣١٥]] وَبَيَانُ التَّحْرِيجِ عَلَيْهِنَّ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدِينَةِ، لِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا". وَهَذَا لَفْظٌ مُخْتَصٌّ بِهَا فَيَخْتَصُّ بِحُكْمِهَا. قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْبُيُوتِ مِثْلُهَا، لِأَنَّهُ»
لَمْ يُعَلَّلْ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهَا، وَإِنَّمَا عُلِّلَ بِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ الَّذِي لَقِيَ: [وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ [، وَهَذَا بَيِّنٌ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: [وَنَهَى عَنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ [وَهَذَا عَامٌّ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) القول في هذا فلا معنى للإعادة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أَيْ فِي فَصَاحَةِ كَلَامِهِ. وَقِيلَ: عَجَبًا فِي بَلَاغَةِ مَوَاعِظِهِ. وَقِيلَ: عَجَبًا فِي عِظَمِ بَرَكَتِهِ. وَقِيلَ: قُرْآنًا عَزِيزًا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ. وَقِيلَ: يَعْنُونَ عَظِيمًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ إِلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ويَهْدِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ هَادِيًا. فَآمَنَّا بِهِ أَيْ فَاهْتَدَيْنَا بِهِ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
أَيْ لَا نَرْجِعُ إِلَى إِبْلِيسَ وَلَا نُطِيعُهُ، لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ بَعَثَهُمْ لِيَأْتُوهُ بِالْخَبَرِ، ثُمَّ رُمِيَ الْجِنُّ بِالشُّهُبِ. وَقِيلَ لَا نَتَّخِذُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، لِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْجِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَهَابِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْجِنُّ بِتَدَبُّرِهَا الْقُرْآنَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أَيِ اسْتَمَعُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَعَلِمُوا أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُسْتَمَعَ إِلَيْهِ لِدِلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. وَالنَّفَرُ الرَّهْطُ، قَالَ الْخَلِيلُ: مَا بَيْنَ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا كَانَ عَلْقَمَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَخَلَفٌ وَحَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ يَنْصِبُونَ (أَنَّ) فِي جَمِيعِ السُّورَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا، وَهُوَ [[كلمة (وهو) موجود في الأصول ح، و، ط، ص وليست موجودة في الأصل ا. والضمير راجع إلى النصب.]]: أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ، وَأَنَّا ظَنَنَّا، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ، وأَنَّهُ اسْتَمَعَ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْفَتْحُ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ اسْمِ فَاعِلٍ أُوحِيَ فَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هو محمول على الهاء في فَآمَنَّا بِهِ، أَيْ وَبِ- أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَجَازَ ذَلِكَ وَهُوَ مُضْمَرٌ مَجْرُورٌ لِكَثْرَةِ حَرْفِ الجار مَعَ (أَنَّ). وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ جَدُّ رَبِّنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالْكَسْرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا لِأَنَّهُ كُلَّهُ [[كلمة (كله) ساقطة من ح.]] من كلام الجن. وأما أبو جعفر وَشَيْبَةُ فَإِنَّهُمَا فَتَحَا ثَلَاثَةَ مَوَاضِعَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ، قَالَا: لِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَكَسَرَا مَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: ١٩]. فَكُلُّهُمْ فَتَحُوا إِلَّا نَافِعًا وَشَيْبَةَ وَزِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلَ عَنْ عَاصِمٍ، فَإِنَّهُمْ كَسَرُوا لَا غَيْرَ. وَلَا خِلَافَ فِي فَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، وأَنْ قَدْ أَبْلَغُوا. وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِي كَسْرِ مَا بَعْدَ الْقَوْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا وقال [[كذا في الأصل على قراءة نافع. وقراءة حفص (قل).]] إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الجن: ٢٠] وقُلْ إِنْ أَدْرِي [الجن: ٢٥]. وقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ [الجن: ٢١]. وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِي كَسْرِ مَا كَانَ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: ٢٣] وفَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الجن: ٢٧]. لأنه موضع ابتداء. قوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [[كذا في ا، ح، ط. وفي الطبعة الاولى: (جَدُّ رَبِّنا).]] الْجَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا حَفِظَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي عُيُونِنَا، أَيْ عَظُمَ وَجَلَّ. فَمَعْنَى: جَدُّ رَبِّنا أي عظمته وجلاله، قاله عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: ذَكَرَهُ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: غِنَاهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَظِّ جَدٌّ، وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ أَيْ مَحْظُوظٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: [وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ [قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْخَلِيلُ: أَيْ ذَا الْغِنَى، مِنْكَ الْغِنَى، إِنَّمَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُدْرَتُهُ. الضَّحَّاكُ: فِعْلُهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا: آلَاؤُهُ وَنِعَمُهُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمْرُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أَيْ تَعَالَى رَبُّنَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَنَوْا بِذَلِكَ الْجَدَّ الَّذِي هُوَ أَبُ الْأَبِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَالرَّبِيعُ: لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى جَدٌّ، وَإِنَّمَا قَالَتْهُ الْجِنُّ لِلْجَهَالَةِ، فَلَمْ يُؤَاخَذُوا بِهِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجَدِّ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَفْظٌ مُوهِمٌ، فَتَجَنُّبُهُ أَوْلَى. وَقِرَاءَةُ عِكْرِمَةَ (جِدُّ) بِكَسْرِ الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ السَّمَيْقَعِ أَيْضًا وَأَبِي الْأَشْهَبِ جَدَا رَبِّنَا، وَهُوَ الْجَدْوَى وَالْمَنْفَعَةُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا (جد) بِالتَّنْوِينِ (رَبُّنَا) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، بِ- تَعالى، وَ "جَدًّا" مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا (جَدٌّ) بِالتَّنْوِينِ وَالرَّفْعِ (رَبُّنَا) بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: تَعَالَى جَدُّ جَدِّ رَبِّنَا، فَجَدُّ الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَحُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَلَالُ ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستيناس بِهِمَا وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا، وَالرَّبُّ يَتَعَالَى عَنِ الْأَنْدَادِ والنظراء.
QUL supports exporting tafsir content in both JSON and SQLite formats.
Tafsir text may include <html>
tags for formatting such as <b>
,
<i>
, etc.
Note:
Tafsir content may span multiple ayahs. QUL exports both the tafsir text and the ayahs it applies to.
Example JSON Format:
{ "2:3": { "text": "tafisr text.", "ayah_keys": ["2:3", "2:4"] }, "2:4": "2:3" }
"ayah_key"
in "surah:ayah"
, e.g. "2:3"
means
3rd ayah of Surah Al-Baqarah.
text
: the tafsir content (can include HTML)ayah_keys
: an array of ayah keys this tafsir applies toayah_key
where the tafsir text can be found.
ayah_key
: the ayah for which this record applies.group_ayah_key
: the ayah key that contains the main tafsir text (used for shared tafsir).
from_ayah
/ to_ayah
: start and end ayah keys for convenience (optional).ayah_keys
: comma-separated list of all ayah keys that this tafsir covers.text
: tafsir text. If blank, use the text
from the group_ayah_key
.