﴿إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي أشَدُّ وطْئًا وأقْوَمُ قِيلًا﴾ تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِ زَمَنِ اللَّيْلِ بِالقِيامِ فِيهِ فَهي مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ (﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢])، أيْ: قُمِ اللَّيْلَ؛ لِأنَّ ناشِئَتَهُ أشَدُّ وطْئًا وأقْوَمُ قِيلًا.
والمَعْنى: أنَّ في قِيامِ اللَّيْلِ تَزْكِيَةً وتَصْفِيَةً لِسِرِّكَ وارْتِقاءً بِكَ إلى المَراقِي المَلَكِيَّةِ.
و(ناشِئَةَ): وصْفٌ مِنَ النَّشْءِ وهو الحُدُوثُ. وقَدْ جَرى هَذا الوَصْفُ هُنا عَلى غَيْرِ مَوْصُوفٍ، وأُضِيفَ إلى اللَّيْلِ إضافَةً عَلى مَعْنى في مِثْلِ (مَكْرُ اللَّيْلِ)، وجُعِلَ مِن أقْوَمِ القِيلِ، فَعُلِمَ أنَّ فِيهِ قَوْلًا وقَدْ سَبَقَهُ الأمْرُ بِقِيامِ اللَّيْلِ وتَرْتِيلِ القُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ مَوْصُوفَهُ المَحْذُوفَ هو صَلاةٌ، أيِ: الصَّلاةُ النّاشِئَةُ في اللَّيْلِ، فَإنَّ الصَّلاةَ تَشْتَمِلُ عَلى أفْعالٍ وأقْوالٍ وهي قِيامٌ.
ووَصْفُ الصَّلاةِ بِالنّاشِئَةِ لِأنَّها أنْشَأها المُصَلِّي فَنَشَأتْ بَعْدَ هَدْأةِ اللَّيْلِ فَأشْبَهَتِ السَّحابَةَ الَّتِي تَتَنَشَّأُ مِنَ الأُفُقِ بَعْدَ صَحْوٍ، وإذا كانَتِ الصَّلاةُ بَعْدَ نَوْمٍ فَمَعْنى النَّشْءِ فِيها أقْوى، ولِذَلِكَ فَسَّرَتْها عائِشَةُ بِالقِيامِ بَعْدَ النَّوْمِ. وفَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ ﴿ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ بِصَلاةِ اللَّيْلِ كُلِّها. واخْتارَهُ مالِكٌ. وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ: أنَّها ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أنَّ أصْلَ هَذا مُعَرَّبٌ عَنِ الحَبَشَةِ، وقَدْ عَدَّها السُّبْكِيُّ في مَنظُومَتِهِ في مُعَرَّباتِ القُرْآنِ.
وإيثارُ لَفْظِ (ناشِئَةَ) في هَذِهِ الآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِن نَحْوِ: قِيامٍ، أوْ تَهَجُّدٍ، لِأجْلِ ما يَحْتَمِلُهُ مِن هَذِهِ المَعانِي لِيَأْخُذَ النّاسُ فِيهِ بِالِاجْتِهادِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ العَشَرَةِ (وطْئًا) بِفَتْحِ الواوِ وسُكُونِ الطّاءِ بَعْدَها هَمْزَةٌ، والوَطْءُ: أصْلُهُ وضْعُ الرِّجْلِ عَلى الأرْضِ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِمَعْنًى يُناسِبُ أنْ يَكُونَ شَأْنًا لِلظَّلامِ بِاللَّيْلِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَطْءُ اسْتُعِيرَ لِفِعْلٍ مِن أفْعالِ المُصَلِّي عَلى نَحْوِ إسْنادِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ، أيْ: واطِئًا أنْتَ، فَهو مُسْتَعارٌ لِتَمَكُّنِ المُصَلِّي مِنَ الصَّلاةِ
صفحة ٢٦٣
فِي اللَّيْلِ بِتَفَرُّغِهِ لَها وهُدُوءِ بالِهِ مِنَ الأشْغالِ النَّهارِيَّةِ تَمُكَّنَ الواطِئِ عَلى الأرْضِ فَهو أمْكَنُ لِلْفِعْلِ. والمَعْنى: أشَدُّ وقْعًا، وبِهَذا فَسَّرَهُ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ والضَّحّاكُ وقالَهُ الفَرّاءُ.ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَطْءُ مُسْتَعارًا لِحالَةِ صَلاةِ اللَّيْلِ وأثَرِها في المُصَلِّي، أيْ: أشَدُّ أثَرِ خَيْرٍ في نَفْسِهِ وأرْسَخُ خَيْرًا وثَوابًا، وبِهَذا فَسَّرَهُ قَتادَةُ.
وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو وحْدَهُ (وِطاءً) بِكَسْرِ الواوِ وفَتْحِ الطّاءِ ومَدِّها مَصْدَرُ (واطَأ) مِن مادَّةِ الفِعالِ. والوِطاءُ: الوِفاقُ والمُلاءَمَةُ، قالَ تَعالى ﴿لِيُواطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٧] . والمَعْنى: أنَّ صَلاةَ اللَّيْلِ أوْفَقُ بِالمُصَلِّي بَيْنَ اللِّسانِ والقَلْبِ، أيْ: بَيْنَ النُّطْقِ بِالألْفاظِ وتَفَهُّمِ مَعانِيها لِلْهُدُوءِ الَّذِي يَحْصُلُ في اللَّيْلِ وانْقِطاعِ الشَّواغِلِ وبِحاصِلِ هَذا فَسَّرَ مُجاهِدٌ.
وضَمِيرُ (هي) ضَمِيرُ فَصْلٍ، وانْظُرْ ما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرًا﴾ [المزمل: ٢٠] في وُقُوعِ ضَمِيرِ الفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ واسْمِ تَفْضِيلٍ. وضَمِيرُ الفَصْلِ هُنا لِتَقْوِيَةِ الحُكْمِ لا لِلْحَصْرِ.
والأقْوَمُ: الأفْضَلُ في التَّقَوِّي الَّذِي هو عَدَمُ الِاعْوِجاجِ والِالتِواءِ واسْتُعِيرَ (أقْوَمُ) لِلْأفْضَلِ الأنْفَعِ.
وقِيلًا: القَوْلُ، وأُرِيدَ بِهِ قِراءَةُ القُرْآنِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: ٥] . فالمَعْنى: أنَّ صَلاةَ اللَّيْلِ أعْوَنُ عَلى تَذَكُّرِ القُرْآنِ والسَّلامَةِ مِن نِسْيانِ بَعْضِ الآياتِ، وأعْوَنُ عَلى المَزِيدِ مِنَ التَّدَبُّرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأقْوَمُ قِيلًا: أدْنى مِن أنْ يَفْقَهُوا القُرْآنَ. وقالَ قَتادَةُ: أحْفَظُ لِلْقِراءَةِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أقْوَمُ قِراءَةً لِفَراغِهِ مِنَ الدُّنْيا.
وانْتَصَبَ (وطْئًا) و(قِيلًا) نِسْبَةَ تَمْيِيزَيْ لِـ (أشَدَّ)، ولِـ (أقْوَمَ) .