Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ ﴿قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢] مَوْقِعُ الِافْتِتاحِ بِهَذا التَّحْمِيدِ كَمَوْقِعِ الخُطْبَةِ يُفْتَتَحُ بِها الكَلامُ في الغَرَضِ المُهِمِّ.
ولَمّا كانَ إنْزالُ القُرْآنِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ أجْزَلَ نَعْماءِ اللَّهِ تَعالى عَلى عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّهُ سَبَبُ نَجاتِهِمْ في حَياتِهِمُ الأبَدِيَّةِ، وسَبَبُ فَوْزِهِمْ في الحَياةِ العاجِلَةِ بِطِيبِ الحَياةِ وانْتِظامِ الأحْوالِ، والسِّيادَةِ عَلى النّاسِ، ونِعْمَةٌ عَلى النَّبِيءِ ﷺ بِأنْ جَعَلَهُ واسِطَةَ ذَلِكَ ومُبَلِّغَهُ ومُبَيِّنَهُ؛ لِأجْلِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّهُ تَعالى أكْمَلَ الحَمْدِ إخْبارًا وإنْشاءً، وقَدْ تَقَدَّمَ إفادَةُ جُمْلَةِ ”الحَمْدُ لِلَّهِ“ اسْتِحْقاقَهُ أكْمَلَ الحَمْدِ في صَدْرِ سُورَةِ الفاتِحَةِ.
وهِيَ هُنا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، أخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، والمُسْلِمِينَ بِأنَّ مُسْتَحِقَّ الحَمْدِ هو اللَّهُ تَعالى لا غَيْرُهُ؛ فَأجْرى عَلى اسْمِ الجَلالَةِ الوَصْفَ بِالمَوْصُولِ؛ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ، ولِما يُفِيدُهُ المَوْصُولُ مِن تَعْلِيلِ الخَبَرِ.
صفحة ٢٤٧
وذِكْرُ النَّبِيءِ ﷺ بِوَصْفِ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ؛ تَقْرِيبٌ لِمَنزِلَتِهِ، وتَنْوِيهٌ بِهِ بِما في إنْزالِ الكِتابِ عَلَيْهِ مِن رِفْعَةِ قَدْرِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] .والكِتابُ: القُرْآنُ، فَكُلُّ مِقْدارٍ مُنَزَّلٍ مِنَ القُرْآنِ فَهو الكِتابُ، فالمُرادُ بِالكِتابِ هُنا ما وقَعَ إنْزالُهُ مِن يَوْمِ البَعْثَةِ في غارِ حِراءٍ إلى يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، ويُلْحَقُ بِهِ ما يَنْزِلُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، ويُزادُ بِهِ مِقْدارُهُ.
وجُمْلَةُ ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الكِتابِ وبَيْنَ الحالِ مِنهُ وهو ﴿قَيِّمًا﴾ [الكهف: ٢]، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، ويَجُوزُ كَوْنُ الجُمْلَةِ حالًا، والواوِ حالِيَّةً.
والعِوَجُ بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِها وبِفَتْحِ الواوِ حَقِيقَتُهُ: انْحِرافُ جِسْمٍ ما عَنِ الشَّكْلِ المُسْتَقِيمِ، فَهو ضِدُّ الِاسْتِقامَةِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى الِانْحِرافِ عَنِ الصَّوابِ والمَعانِي المَقْبُولَةِ المُسْتَحْسَنَةِ.
والَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ مِن أيِمَّةِ اللُّغَةِ أنَّ مَكْسُورَ العَيْنِ ومَفْتُوحَها سَواءٌ في الإطْلاقَيْنِ الحَقِيقِيِّ والمَجازِيِّ، وقِيلَ: المَكْسُورُ العَيْنِ يَخْتَصُّ بِالإطْلاقِ المَجازِيِّ، وعَلَيْهِ دَرَجَ في الكَشّافِ، ويُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ نَسْفَ الجِبالِ ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ [طه: ١٠٦] حَيْثُ اتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى قِراءَتِهِ بِكَسْرِ العَيْنِ، وعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أنَّ المَكْسُورَ أعَمُّ يَجِيءُ في الحَقِيقِيِّ والمَجازِيِّ، وأنَّ المَفْتُوحَ خاصٌّ بِالمَجازِيِّ.
والمُرادُ بِالعِوَجِ هُنا: عِوَجُ مَدْلُولاتِ كَلامِهِ بِمُخالَفَتِها لِلصَّوابِ، وتَناقُضِها، وبُعْدِها عَنِ الحِكْمَةِ، وإصابَةِ المُرادِ.
والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ أوِ الحالِيَّةِ إبْطالُ ما يَرْمِيهِ بِهِ المُشْرِكُونَ مِن قَوْلِهِمُ: افْتَراهُ، وأساطِيرُ الأوَّلِينَ، وقَوْلُ كاهِنٍ؛ لِأنَّ تِلْكَ الأُمُورَ لا تَخْلُو مِن عِوَجٍ، قالَ تَعالى ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] .
صفحة ٢٤٨
وضَمِيرُ ”لَهُ“ عائِدٌ إلى ”الكِتابَ“ .وإنَّما عُدِّيَ الجَعْلُ بِاللّامِ دُونَ ”في“؛ لِأنَّ العِوَجَ المَعْنَوِيَّ يُناسِبُهُ حَرْفُ الِاخْتِصاصِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ؛ لِأنَّ الظَّرْفِيَّةَ مِن عَلائِقِ الأجْسامِ، وأمّا مَعْنى الِاخْتِصاصِ فَهو أعَمُّ.
فالمَعْنى: أنَّهُ مُتَّصِفٌ بِكَمالِ أوْصافِ الكُتُبِ مِن صِحَّةِ المَعانِي والسَّلامَةِ مِنَ الخَطَأِ والِاخْتِلافِ، وهَذا وصْفُ كَمالٍ لِلْكِتابِ في ذاتِهِ، وهو مُقْتَضٍ أنَّهُ أهْلٌ لِلِانْتِفاعِ بِهِ، فَهَذا كَوَصْفِهِ بِأنَّهُ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
و”قَيِّمًا“ حالٌ مِنَ الكِتابِ أوْ مِن ضَمِيرِهِ المَجْرُورِ بِاللّامِ؛ لِأنَّهُ إذا جُعِلَ حالًا مِن أحَدِهِما ثَبَتَ الِاتِّصافُ بِهِ لِلْآخَرِ، إذْ هُما شَيْءٌ واحِدٌ، فَلا طائِلَ فِيما أطالُوا بِهِ مِنَ الإعْرابِ.
والقَيِّمُ: صِفَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ القِيامِ المَجازِيِّ، الَّذِي يُطْلَقُ عَلى دَوامِ تَعَهُّدِ شَيْءٍ، ومُلازَمَةِ صَلاحِهِ؛ لِأنَّ التَّعَهُّدَ يَسْتَلْزِمُ القِيامَ لِرُؤْيَةِ الشَّيْءِ، والتَّيَقُّظَ لِأحْوالِهِ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والمُرادُ بِهِ هُنا أنَّهُ قَيِّمٌ عَلى هَدْيِ الأُمَّةِ، وإصْلاحِها، فالمُرادُ أنَّ كَمالَهُ مُتَعَدٍّ بِالنَّفْعِ، فَوِزانُهُ وِزانُ وصْفِهِ بِأنَّهُ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ وقَوْلِهِ ”قَيِّمًا“ كالجَمْعِ بَيْنَ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] وبَيْنَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ولَيْسَ هو تَأْكِيدًا لِنَفْيِ العِوَجِ.