Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٣١١
﴿أُولَئِكَ لَهم جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ويَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِن سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلى الأرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ ما أجْمَلَ مِن عَدَمِ إضاعَةِ أجْرِهِمْ يَسْتَشْرِفُ بِالسّامِعِ إلى تَرَقُّبِ ما يُبِينُ هَذا الأجْرَ.وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِاسْمِ الإشارَةِ لِما فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِمْ جَدِيرُونَ لِما بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ؛ لِأجْلِ الأوْصافِ المَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ، وهي كَوْنُهم آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ.
واللّامُ في ﴿لَهم جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ لامُ المُلْكِ، و(مِن) لِلِابْتِداءِ، جُعِلَتْ جِهَةَ ”تَحْتَهم“ مَنشَأً لِجَرْيِ الأنْهارِ، وتَقَدَّمَ شَبِيهُ هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [التوبة: ٧٢] في سُورَةِ ”بَراءَةَ“ .
وعُدَنَّ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢] في سُورَةِ ”بَراءَةَ“ .
و﴿مِن تَحْتِهِمُ﴾ بِمَنزِلَةِ ﴿مِن تَحْتِها﴾ [التوبة: ٧٢]؛ لِأنَّ تَحْتَ جَنّاتِهِمْ هو تَحْتٌ لَهم.
ووَجْهُ إيثارِ إضافَةِ (تَحْتَ) إلى ضَمِيرِهِمْ دُونَ ضَمِيرِ الجَنّاتِ زِيادَةُ تَقْرِيرِ المَعْنى الَّذِي أفادَتْهُ لامُ المِلْكِ، فاجْتَمَعَ في هَذا الخَبَرِ عِدَّةُ مُقَرِّراتٍ لِمَضْمُونِهِ، وهي: التَّأْكِيدُ مَرَّتَيْنِ، وذِكْرُ اسْمِ الإشارَةِ، ولامِ المِلْكِ، وجَرُّ اسْمِ الجِهَةِ بِـ (مِن)، وإضافَةُ اسْمِ الجِهَةِ إلى ضَمِيرِهِمْ، والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ: التَّعْرِيضُ بِإغاظَةِ المُشْرِكِينَ لِتَتَقَرَّرَ بِشارَةُ المُؤْمِنِينَ أتَمَّ تَقَرُّرٍ
صفحة ٣١٢
وجُمْلَةُ يُحَلَّوْنَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ ”جَنّاتِ عَدْنٍ“ .والتَّحْلِيَةُ: التَّزْيِينُ، والحِلْيَةُ: الزِّينَةُ.
وأسْنَدَ الفِعْلَ إلى المَجْهُولِ،؛ لِأنَّهم يَجِدُونَ أنْفُسَهم مُحِلِّينَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعالى.
والأساوِرُ: جَمْعُ سِوارٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وقِيلَ: جَمْعُ أسْوِرَةٍ الَّذِي هو جَمْعُ سِوارٍ، فَصِيغَةُ جَمْعِ الجَمْعِ لِلْإشارَةِ إلى اخْتِلافِ أشْكالِ ما يُحَلَّوْنَ بِهِ مِنها، فَإنَّ الحِلْيَةَ تَكُونُ مُرَصَّعَةً بِأصْنافِ اليَواقِيتِ.
و(مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِن أساوِرَ﴾ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ، وسَيَأْتِي وجْهُهُ في سُورَةِ الحَجِّ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلِابْتِداءِ، وهو مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ زِيادَتَها في الإثْباتِ.
والسِّوارُ: حُلِيٌّ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ يُحِيطُ بِمَوْضِعِ الذِّراعِ، وهو اسْمٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الفارِسِيَّةِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ، وهو في الفارِسِيَّةِ (دُسْتُوراهْ) بَهاءٍ في آخِرِهِ كَما في كِتابِ الرّاغِبِ، وكُتِبَ بِدُونِ هاءٍ في تاجِ العَرُوسِ.
وأمّا قَوْلُهُ ﴿مِن ذَهَبٍ﴾ فَإنَّ (مِن) فِيهِ لِلْبَيانِ، وفي الكَلامِ اكْتِفاءٌ، أيْ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ، كَما اكْتَفى في آيَةِ سُورَةِ الإنْسانِ بِذِكْرِ الفِضَّةِ عَنْ ذِكْرِ الذَّهَبِ بِقَوْلِهِ ﴿وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ [الإنسان: ٢١]، ولِكُلٍّ مِنَ المَعْدِنَيْنِ جَمالُهُ الخاصُّ.
واللِّباسُ: سَتْرُ البَدَنِ بِثَوْبٍ مِن قَمِيصٍ أوْ إزارٍ أوْ رِداءٍ، وجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْوِقايَةِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ ولِلتَّجَمُّلِ.
والثِّيابُ: جَمْعُ ثَوْبٍ، وهو الشُّقَّةُ مِنَ النَّسِيجِ.
واللَّوْنُ الأخْضَرُ أعْدَلُ الألْوانِ، وأنْفَعُها عِنْدَ البَصَرِ، وكانَ مِن شِعارِ المُلُوكِ، قالَ النّابِغَةُ:
يَصُونُونَ أجْسادًا قَدِيمًا نَعِيمُها بِخالِصَةِ الأرْدانِ خُضْرِ المَناكِبِ
صفحة ٣١٣
والسُّنْدُسُ: صِنْفٌ مِنَ الثِّيابِ، وهو الدِّيباجُ الرَّقِيقُ يُلْبَسُ مُباشِرًا لِلْجِلْدِ لِيَقِيَهُ غِلَظَ الإسْتَبْرَقِ.والإسْتَبْرَقُ: الدِّيباجُ الغَلِيظُ المَنسُوجُ بِخُيُوطِ الذَّهَبِ، يُلْبَسُ فَوْقَ الثِّيابِ المُباشِرَةِ لِلْجِلْدِ.
وكِلا اللَّفْظَيْنِ مُعَرَّبٌ، فَأمّا لَفْظُ سُنْدُسٍ فَلا خِلافَ في أنَّهُ مُعَرَّبٌ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في أصْلِهِ، فَقالَ جَماعَةٌ: أصْلُهُ فارِسِيٌّ، وقالَ المُحَقِّقُونَ: أصْلُهُ هِنْدِيٌّ، وهو في اللُّغَةِ الهِنْدِيَّةِ ”سَنْدُونْ“ بِنُونٍ في آخِرِهِ، كانَ قَوْمٌ مِن وُجُوهِ الهِنْدِ وفَدُوا عَلى الإسْكَنْدَرِ يَحْمِلُونَ هَدِيَّةً مِن هَذا الدِّيباجِ، وأنَّ الرُّومَ غَيَّرُوا اسْمَهُ إلى سُنْدُوسْ، والعَرَبُ نَقَلُوهُ عَنْهم فَقالُوا سُنْدُسْ؛ فَيَكُونُ مُعَرَّبًا عَنِ الرُّومِيَّةِ، وأصْلُهُ الأصِيلُ هِنْدِيٌّ.
وأمّا الإسْتَبْرَقُ فَهو مُعْرَبٌ عَنِ الفارِسِيَّةِ، وأصْلُهُ في الفارِسِيَّةِ (إسْتَبْرَهْ) أوْ (إسْتَبرْ) بِدُونِ هاءٍ أوْ (إسْتَقْرَهْ) أوْ (إسْتَفْرَهْ)، وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هو سُرْيانِيٌّ عُرِّبَ، وأصْلُهُ (إسْتُرْوَهْ) وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو رُومِيٌّ عُرِّبَ، ولِذَلِكَ فَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ قَطْعٍ عِنْدَ الجَمِيعِ، وذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَماءِ اللُّغَةِ في بابِ الهَمْزَةِ، وهو الأصْوَبُ، ويُجْمَعُ عَلى أبارِقَ قِياسًا، عَلى أنَّهم صَغَّرُوهُ عَلى أُبَيْرِقَ؛ فَعامَلُوا السِّينَ والتّاءَ مُعامَلَةَ الزَّوائِدِ.
وفِي الإتْقانِ لِلسُّيُوطِيِّ عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ: لَوِ اجْتَمَعَ فُصَحاءُ العالَمِ وأرادُوا أنْ يَتْرُكُوا هَذا اللَّفْظَ ويَأْتُوا بِلَفْظٍ يَقُومُ مَقامَهُ في الفَصاحَةِ لَعَجَزُوا.
وذَلِكَ: أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا حَثَّ عِبادَهُ عَلى الطّاعَةِ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ، والوَعْدُ بِما يَرْغَبُ فِيهِ العُقَلاءُ، وذَلِكَ مُنْحَصِرٌ في: الأماكِنِ، والمَآكِلِ، والمَشارِبِ، والمَلابِسِ، ونَحْوِها مِمّا تَتَّحِدُ فِيهِ الطِّباعُ أوْ تَخْتَلِفُ فِيهِ، وأرْفَعُ المَلابِسِ في الدُّنْيا الحَرِيرُ، والحَرِيرُ كُلَّما كانَ ثَوْبُهُ أثْقَلَ كانَ أرْفَعَ، فَإذا أُرِيدَ ذِكْرُ هَذا فالأحْسَنُ أنْ يُذْكَرَ بِلَفْظٍ واحِدٍ مَوْضُوعٍ لَهُ صَرِيحٌ، وذَلِكَ لَيْسَ إلّا الإسْتَبْرَقُ
صفحة ٣١٤
ولا يُوجَدُ في العَرَبِيَّةِ لَفْظٌ واحِدٌ يَدُلُّ عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ إسْتَبْرَقٍ، هَذِهِ خُلاصَةُ كَلامِهِ عَلى تَطْوِيلٍ فِيهِ.و(مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِن سُنْدُسٍ﴾ لِلْبَيانِ.
وقَدَّمَ ذِكْرَ الحُلِيِّ عَلى اللِّباسِ هُنا؛ لِأنَّ ذَلِكَ وقَعَ صِفَةً لِلْجَنّاتِ ابْتِداءً، وكانَتْ مَظاهِرُ الحُلِيِّ أبْهَجَ لِلْجَنّاتِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الحُلِيِّ، وأخَّرَ اللِّباسَ؛ لِأنَّ اللِّباسَ أشَدُّ اتِّصالًا بِأصْحابِ الجَنَّةِ لا بِمَظاهِرِ الجَنَّةِ، وعَكْسُ ذَلِكَ في سُورَةِ الإنْسانِ في قَوْلِهِ ﴿عالِيَهم ثِيابُ سُنْدُسٍ﴾ [الإنسان: ٢١]؛ لِأنَّ الكَلامَ هُنالِكَ جَرى عَلى صِفاتِ أصْحابِ الجَنَّةِ، وجُمْلَةُ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلى الأرائِكِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ يَلْبِسُونَ.
والِاتِّكاءُ: جِلْسَةُ الرّاحَةِ والتَّرَفِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ [يوسف: ٣١] في سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
والأرائِكُ: جَمْعُ أرِيكَةٍ، وهي اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وحَجَلَةٍ، والحَجَلَةُ: قُبَّةٌ مِن ثِيابٍ تَكُونُ في البَيْتِ تَجْلِسُ فِيها المَرْأةُ أوْ تَنامُ فِيها، ولِذَلِكَ يُقالُ لِلنِّساءِ: رَبّاتُ الحِجالِ، فَإذا وُضِعَ فِيها سَرِيرٌ لِلِاتِّكاءِ أوِ الِاضْطِجاعِ فَهي أرِيكَةٌ، ويَجْلِسُ فِيها الرَّجُلُ ويَنامُ مَعَ المَرْأةِ، وذَلِكَ مِن شِعارِ أهْلِ التَّرَفِ.
وجُمْلَةُ ﴿نِعْمَ الثَّوابُ﴾ اسْتِئْنافُ مَدْحٍ، ومَخْصُوصُ فِعْلِ المَدْحِ مَحْذُوفٌ؛ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: نِعْمَ الثَّوابُ الجَنّاتُ المَوْصُوفَةُ.
وعُطِفَ عَلَيْهِ فِعْلُ إنْشاءٍ ثانٍ وهو ﴿وحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾؛ لِأنَّ (حَسُنَ) و(ساءَ) مُسْتَعْمَلانِ اسْتِعْمالَ (نِعْمَ) و(بِئْسَ) فَعَمِلا عَمَلَهُما، ولِذَلِكَ كانَ التَّقْدِيرُ: وحَسُنَتِ الجَنّاتُ مُرْتَفَقًا، وهَذا مُقابِلُ قَوْلِهِ في حِكايَةِ حالِ أهْلِ النّارِ ﴿وساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: ٢٩] .
والمُرْتَفَقُ: هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ بِخِلافِ مُقابِلِهِ المُتَقَدِّمِ.