﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾

هَذا كَلامٌ وقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ مُحاجَّةِ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ في أمْرِ القِبْلَةِ، نَزَلَ هَذا بِسَبَبِ تَرَدُّدٍ واضْطِرابٍ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أمْرِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وذَلِكَ عامَ حِجَّةِ الوَداعِ، كَما جاءَ في حَدِيثِ عائِشَةَ الآتِي، فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها وبَعْدَ الآياتِ الَّتِي نَقْرَؤُها بَعْدَها، لِأنَّ الحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ، وهي مِنَ الآياتِ الَّتِي أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإلْحاقِها بِبَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِها بِمُدَّةِ، والمُناسَبَةُ بَيْنَها وبَيْنَ ما قَبْلَها هو أنَّ العُدُولَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ يُشْبِهُ فِعْلَ مَن عَبَّرَ عَنْهم بِالسُّفَهاءِ مِنَ القِبْلَةِ وإنْكارِ

صفحة ٥٩

العُدُولِ عَنِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ إلْحاقِها بِهَذا المَكانِ مَوْقِعُ الِاعْتِراضِ في أثْناءِ الِاعْتِراضِ، فَقَدْ كانَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ مِن أعْمالِ الحَجِّ مِن زَمَنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى هاجَرَ وابْنِها إسْماعِيلَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ العَطَشِ كَما في حَدِيثِ البُخارِيِّ في كِتابِ بَدْءِ الخَلْقِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «أنْ هاجَرَ أُمَّ إسْماعِيلَ لَمّا تَرَكَها إبْراهِيمُ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ ومَعَها ابْنُها وهو رَضِيعٌ وتَرَكَ لَها جِرابًا مِن تَمْرٍ وسِقاءً فِيهِ ماءٌ، فَلَمّا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابْنُها وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوّى فانْطَلَقَتْ كَراهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفا أقْرَبَ جَبَلٍ يَلِيها فَقامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرى أحَدًا فَلَمْ تَرَ أحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفا وأتَتِ المَرْوَةَ فَقامَتْ عَلَيْها فَنَظَرَتْ هَلْ تَرى أحَدًا فَلَمْ تَرَ أحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرّاتٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ فَقالَ النَّبِيءُ ﷺ: فَلِذَلِكَ سَعى النّاسُ بَيْنَهُما، فَسَمِعَتْ صَوْتًا فَقالَتْ في نَفْسِها صَهٍ ثُمَّ تَسَمَّعَتْ أيْضًا فَقالَتْ قَدْ أسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غُواثٌ، فَإذا هي بِالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ حَتّى ظَهَرَ الماءُ فَشَرِبَتْ وأرْضَعَتْ ولَدَها»، فَيُحْتَمَلُ أنَّ إبْراهِيمَ سَعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَذَكُّرًا لِشُكْرِ النِّعْمَةِ وأمَرَ بِهِ إسْماعِيلَ، ويُحْتَمَلُ أنَّ إسْماعِيلَ ألْحَقَهُ بِأفْعالِ الحَجِّ، أوْ أنَّ مَن جاءَ مِن أبْنائِهِ فَعَلَ ذَلِكَ فَتَقَرَّرَ في الشَّعائِرِ عِنْدَ قُرَيْشٍ لا مَحالَةَ.

وقَدْ كانَ حَوالِيَ الكَعْبَةِ في الجاهِلِيَّةِ حَجَرانِ كانا مِن جُمْلَةِ الأصْنامِ الَّتِي جاءَ بِها عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ إلى مَكَّةَ فَعَبَدَها العَرَبُ أحَدُهُما يُسَمّى إسافًا والآخَرُ يُسَمّى نائِلَةَ، كانَ أحَدُهُما مَوْضُوعًا قُرْبَ جِدارِ الكَعْبَةِ والآخَرُ مَوْضُوعًا قُرْبَ زَمْزَمَ، ثُمَّ نَقَلُوا الَّذِي قُرْبَ الكَعْبَةِ إلى جِهَةِ زَمْزَمَ، وكانَ العَرَبُ يَذْبَحُونَ لَهُما، فَلَمّا جَدَّدَ عَبْدُ المُطَّلِبِ احْتِفارَ زَمْزَمَ بَعْدَ أنْ دَثَرَتْها جُرْهُمُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِن مَكَّةَ وبَنى سِقايَةَ زَمْزَمَ نَقَلَ ذَيْنَكَ الصَّنَمَيْنِ فَوَضَعَ إسافًا عَلى الصَّفا ونائِلَةَ عَلى المَرْوَةِ، وجَعَلَ المُشْرِكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أصْنامًا صَغِيرَةً وتَماثِيلَ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ في طَرِيقِ المَسْعى، فَتَوَهَّمَ العَرَبُ الَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ أنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ طَوافٌ بِالصَّنَمَيْنِ، وكانَتِ الأوْسُ والخَزْرَجُ وغَسّانُ يَعْبُدُونَ مَناةَ وهو صَنَمٌ بِالمُشَلَّلِ قُرْبَ قُدَيْدٍ فَكانُوا لا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَحَرُّجًا مِن أنْ يَطُوفُوا بِغَيْرِ صَنَمِهِمْ، في البُخارِيِّ فِيما عَلَّقَهُ عَنْ مَعْمَرٍ إلى عائِشَةَ قالَتْ: «كانَ رِجالٌ مِنَ الأنْصارِ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ لِمَناةَ قالُوا يا نَبِيءَ اللَّهِ كُنّا لا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَناةَ.

صفحة ٦٠

فَلَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وأُزِيلَتِ الأصْنامُ وأُبِيحُ الطَّوافُ بِالبَيْتِ وحَجَّ المُسْلِمُونَ مَعَ أبِي بَكْرٍ وسَعَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الأنْصارُ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وسَألَ جَمْعٌ مِنهُمُ النَّبِيءَ ﷺ هَلْ عَلَيْنا مِن حَرَجٍ أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ» .

وقَدْ رَوى مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في المُوَطَّأِ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: قُلْتُ لِعائِشَةَ - وأنا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ - «أرَأيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾، فَما عَلى الرَّجُلِ شَيْءٌ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، فَقالَتْ عائِشَةُ: كَلّا لَوْ كانَ كَما تَقُولُ لَكانَتْ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، إنَّما أُنْزِلَتْ هاتِهِ الآيَةُ في الأنْصارِ كانُوا يُهِلُّونَ لِمَناةَ وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وكانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ﴾ الآيَةَ» .

وفِي البُخارِيِّ عَنْ أنَسٍ «كُنّا نَرى أنَّهُما مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أمْسَكْنا عَنْهُما فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ»، وفِيهِ كَلامُ مَعْمَرٍ المُتَقَدِّمُ أنَّهم كانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَناةَ.

فَتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِـ إنَّ لِأنَّ المُخاطَبِينَ مُتَرَدِّدُونَ في كَوْنِهِما مِن شَعائِرِ اللَّهِ وهم أمْيَلُ إلى اعْتِقادِ أنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما مِن أحْوالِ الجاهِلِيَّةِ، وفي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ: أنَّ سُؤالَهم كانَ عامَ حِجَّةَ الوَداعِ، وبِذَلِكَ كُلِّهِ يَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ بِسِنِينَ فَوَضْعُها في هَذا المَوْضِعِ لِمُراعاةِ المُناسَبَةِ مَعَ الآياتِ الوارِدَةِ في اضْطِرابِ الفَرْقِ في أمْرِ القِبْلَةِ والمَناسِكِ.

والصَّفا والمَرْوَةُ: اسْمانِ لِجَبَلَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ فَأمّا الصَّفا فَهو رَأْسُ نِهايَةِ جَبَلِ أبِي قُبَيْسٍ، وأمّا المَرْوَةُ فَرَأْسٌ هو مُنْتَهى جَبَلِ قُعَيْقِعانَ. وسُمِّيَ الصَّفا لِأنَّ حِجارَتَهُ مِنَ الصَّفا وهو الحَجَرُ الأمْلَسُ الصُّلْبُ، وسُمِّيَتِ المَرْوَةُ مَرْوَةَ لِأنَّ حِجارَتَها مِنَ المَرْوِ وهي الحِجارَةُ البَيْضاءُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُورِي النّارَ ويُذْبَحُ بِها لِأنَّ شَذْرَها يُخْرِجُ قِطَعًا مُحَدَّدَةَ الأطْرافِ وهي تُضْرَبُ بِحِجارَةٍ مِنَ الصَّفا فَتَتَشَقَّقُ قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ:

حَتّى كَأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ بِصَفا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تَفَرَّعُ

صفحة ٦١

وكَأنَّ اللَّهَ تَعالى لَطَفَ بِأهْلِ مَكَّةَ فَجَعَلَ لَهم جَبَلًا مِنَ المَرْوَةِ لِلِانْتِفاعِ بِهِ في اقْتِداحِهِمْ وفي ذَبائِحِهِمْ، وجَعَلَ قُبالَتَهُ الصَّفا لِلِانْتِفاعِ بِهِ في بِنائِهِمْ.

والصَّفا والمَرْوَةُ بِقُرْبِ المَسْجِدِ الحَرامِ وبَيْنَهُما مَسافَةُ سَبْعِمِائَةٍ وسَبْعِينَ ذِراعًا، وطَرِيقُ السَّعْيِ بَيْنَهُما يَمُرُّ حَذْوَ جِدارِ المَسْجِدِ الحَرامِ، والصَّفا قَرِيبٌ مِن بابٍ يُسَمّى بابَ الصَّفا مِن أبْوابِ المَسْجِدِ الحَرامِ ويَصْعَدُ السّاعِي إلى الصَّفا والمَرْوَةِ بِمِثْلِ المُدَرَّجَةِ، والشَّعائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وشِعارَةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنى العَلامَةِ مُشْتَقٌّ مَن شَعَرَ إذا عَلِمَ وفَطِنَ، وهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مُفَعْوِلَةٍ أيْ مُعْلَمٌ بِها ومِنهُ قَوْلُهم: أُشْعِرَ البَعِيرُ إذا جُعِلَ لَهُ سِمَةٌ في سَنامِهِ بِأنَّهُ مُعَدٌّ لِلْهَدْيِ.

فالشَّعائِرُ ما جُعِلَ عَلامَةً عَلى أداءِ عَمَلٍ مِن عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وهي المَواضِعُ المُعَظَّمَةُ مِثْلُ المَواقِيتِ الَّتِي يَقَعُ عِنْدَها الإحْرامُ، ومِنها الكَعْبَةُ والمَسْجِدُ الحَرامِ والمَقامُ والصَّفا والمَرْوَةُ وعَرَفَةُ والمَشْعَرُ الحَرامُ بِمُزْدَلِفَةَ ومِنًى والجِمارُ.

ومَعْنى وصْفِ الصَّفا والمَرْوَةِ بِأنَّهُما مِن شَعائِرِ اللَّهِ أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُما عَلامَتَيْنِ عَلى مَكانِ عِبادَةٍ كَتَسْمِيَةِ مَواقِيتِ الحَجِّ مَواقِيتَ فَوَصْفُهُما بِذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما عِبادَةٌ إذْ لا تَتَعَلَّقُ بِهِما عِبادَةٌ جُعِلا عَلامَةً عَلَيْها غَيْرُ السَّعْيِ بَيْنَهُما، وإضافَتُهُما إلى اللَّهِ لِأنَّهُما عَلامَتانِ عَلى عِبادَتِهِ أوْ لِأنَّهُ جَعَلَهُما كَذَلِكَ.

وقَوْلُهُ ﴿فَمَن حَجَّ البَيْتَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى كَوْنِهِما مِن شَعائِرِ اللَّهِ، وأنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما في الحَجِّ والعُمْرَةِ مِنَ المَناسِكِ فَلا يُرِيبُهُ ما حَصَلَ فِيهِما مِن صُنْعِ الجاهِلِيَّةِ لِأنَّ الشَّيْءَ المُقَدَّسَ لا يُزِيلُ تَقْدِيسَهُ ما يَحُفُّ بِهِ مِن سَيِّئِ العَوارِضِ، ولِذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ فَلا جُناحَ عَلى نَفْيِ ما اخْتَلَجَ في نُفُوسِهِمْ بَعْدَ الإسْلامِ كَما في حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.

والجُناحُ: بِضَمِّ الجِيمِ الإثْمُ مُشْتَقٌّ مِن جَنَحَ إذا مالَ لِأنَّ الإثْمَ يَمِيلُ بِهِ المَرْءُ عَنْ طَرِيقِ الخَيْرِ، فاعْتَبَرُوا فِيهِ المَيْلَ عَنِ الخَيْرِ عَكْسَ اعْتِبارِهِمْ في حَنَفٍ أنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الشَّرِّ إلى الخَيْرِ.

والحَجُّ: اسْمٌ في اللُّغَةِ لِلْقَصْدِ، وفي العُرْفِ، عَلى قَصْدِ البَيْتِ الحَرامِ الَّذِي بِمَكَّةَ لِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى فِيهِ بِالطَّوافِ والوُقُوفِ بِعَرَفَةَ والإحْرامِ ولِذَلِكَ صارَ بِالإطْلاقِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً في هَذا المَعْنى جِنْسًا بِالغَلَبَةِ كالعَلَمِ بِالغَلَبَةِ ولِذَلِكَ قالَ في الكَشّافِ: وهُما أيِ الحَجُّ والعُمْرَةُ، في المَعانِي كالنَّجْمِ والبَيْتِ في الذَّواتِ، فَلا يُحْتاجُ إلى ذِكْرِ مُضافٍ إلَيْهِ إلّا في مَقامِ الِاعْتِناءِ بِالتَّنْصِيصِ، ولِذَلِكَ ورَدَ في القُرْآنِ مَقْطُوعًا عَنِ الإضافَةِ نَحْوَ ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] إلى قَوْلِهِ

صفحة ٦٢

﴿ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧] ووَرَدَ مُضافًا في قَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] لِأنَّهُ مَقامُ ابْتِداءِ تَشْرِيعٍ فَهو مَقامُ بَيانٍ وإطْنابٍ. وفِعْلُ حَجَّ بِمَعْنى قَصَدَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الإطْلاقِ عَلى القَصْدِ في كَلامِ العَرَبِ فَلِذَلِكَ كانَ ذِكْرُ المَفْعُولِ لِزِيادَةِ البَيانِ.

وأمّا صِحَّةُ قَوْلِكَ: حَجَّ فُلانٌ، وقَوْلِهِ ﷺ «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا» بِدُونِ ذِكْرِ المَفْعُولِ فَذَلِكَ حَذْفٌ لِلتَّعْوِيلِ عَلى القَرِينَةِ، فَغَلَبَةُ إطْلاقِ الفِعْلِ عَلى قَصْدِ البَيْتِ أقَلُّ مِن غَلَبَةِ إطْلاقِ اسْمِ الحَجِّ عَلى ذَلِكَ القَصْدِ.

والعُمْرَةُ: اسْمٌ لِزِيارَةِ البَيْتِ الحَرامِ في غَيْرِ وقْتِ الحَجِّ أوْ في وقْتِهِ بِدُونِ حُضُورِ عَرَفَةَ فالعُمْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَجِّ مِثْلُ صَلاةِ الفَذِّ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاةِ الجَماعَةِ، وهي بِصِيغَةِ الِاسْمِ عَلَمُ الغَلَبَةِ عَلى زِيارَةِ الكَعْبَةِ، وفِعْلُها غَلَبَ عَلى تِلْكَ الزِّيارَةِ تَبَعًا لِغَلَبَةِ الِاسْمِ فَساواهُ فِيها ولِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ المَفْعُولُ هُنا ولَمْ يُسْمَعْ.

والغَلَبَةُ عَلى كُلِّ حالٍ لا تَمْنَعُ مِنَ الإطْلاقِ الآخَرِ نادِرًا.

ونَفْيُ الجُناحِ عَنِ الَّذِي يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لا يَدُلُّ عَلى أكْثَرَ مِن كَوْنِهِ غَيْرَ مَنهِيٍّ عَنْهُ فَيُصَدِّقُ بِالمُباحِ والمَندُوبِ، والواجِبِ والرُّكْنِ، لِأنَّ المَأْذُونَ فِيهِ يُصَدِّقُ بِجَمِيعِ المَذْكُوراتِ فَيَحْتاجُ في إثْباتِ حُكْمِهِ إلى دَلِيلٍ آخَرَ ولِذَلِكَ قالَتْ عائِشَةُ لِعُرْوَةَ: لَوْ كانَ كَما تَقُولُ لَقالَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في أحْكامِ القُرْآنِ: إنَّ قَوْلَ القائِلِ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ إباحَةٌ لِلْفِعْلِ وقَوْلُهُ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ لا تَفْعَلَ إباحَةٌ لِتَرْكِ الفِعْلِ فَلَمْ يَأْتِ هَذا اللَّفْظُ لِإباحَةِ تَرْكِ الطَّوافِ ولا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وإنَّما جاءَ لِإفادَةِ إباحَةِ الطَّوافِ لِمَن كانَ تَحَرَّجَ مِنهُ في الجاهِلِيَّةِ أوْ بِمَن كانَ يَطُوفُ بِهِ في الجاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأصْنامِ الَّتِي كانَتْ فِيهِ اهـ.

ومُرادُهُ أنَّ لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ نَصٌّ في نَفْيِ الإثْمِ عَنِ الفاعِلِ وهو صادِقٌ بِالإباحَةِ والنَّدْبِ والوُجُوبِ فَهو في واحِدٍ مِنها مُجْمَلٌ، بِخِلافِ لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ لا تَفْعَلَ فَهو نَصٌّ في نَفْيِ الإثْمِ التّالِي وهو صادِقٌ بِحُرْمَةِ الفِعْلِ وكَراهِيَتِهِ فَهو في أحَدِهِما مُجْمَلٌ، نَعَمْ إنَّ التَّصَدِّيَ لِلْإخْبارِ بِنَفْيِ الإثْمِ عَنْ فاعِلِ شَيْءٍ يَبْدُو مِنهُ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ مَظِنَّةٌ لِأنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا هَذا عُرْفُ اسْتِعْمالِ الكَلامِ، فَقَوْلُكَ: لا جُناحَ عَلَيْكَ في فِعْلِ كَذا ظاهِرٌ في الإباحَةِ بِمَعْنى اسْتِواءِ الوَجْهَيْنِ دُونَ النَّدْبِ والوُجُوبِ إذْ لا يَعْمِدُ أحَدٌ إلى واجِبٍ أوْ فَرْضٍ أوْ مَندُوبٍ

صفحة ٦٣

فَيَقُولُ فِيهِ إنَّهُ لا جُناحَ عَلَيْكم في فِعْلِهِ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ فَهِمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الآيَةِ عَدَمَ فَرْضِيَّةِ السَّعْيِ، ولَقَدْ أصابَ فَهْمًا مِن حَيْثُ اسْتِعْمالُ اللُّغَةِ لِأنَّهُ مِن أهْلِ اللِّسانِ، غَيْرَ أنَّ هُنا سَبَبًا دَعا لِلتَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ السّاعِي وهو ظَنُّ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنَّ في ذَلِكَ إثْمًا، فَصارَ الدّاعِي لِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ السّاعِي هو مُقابَلَةَ الظَّنِّ بِما يَدُلُّ عَلى نَقِيضِهِ مَعَ العِلْمِ بِانْتِفاءِ احْتِمالِ قَصْدِ الإباحَةِ بِمَعْنى اسْتِواءِ الطَّرَفَيْنِ بِما هو مَعْلُومٌ مِن أوامِرِ الشَّرِيعَةِ اللّاحِقَةِ بِنُزُولِ الآيَةِ أوِ السّابِقَةِ لَها، ولِهَذا قالَ عُرْوَةُ فِيما رَواهُ: وأنا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، يُرِيدُ أنَّهُ لا عِلْمَ لَهُ بِالسُّنَنِ وأسْبابِ النُّزُولِ، ولَيْسَ مُرادُهُ مِن حَداثَةِ سِنِّهِ جَهْلَهُ بِاللُّغَةِ لِأنَّ اللُّغَةَ يَسْتَوِي في إدْراكِ مَفاداتِها الحَدِيثُ والكَبِيرُ، ولِهَذا أيْضًا قالَتْ لَهُ عائِشَةُ: بِئْسَما قُلْتَ يا ابْنَ أُخْتِي تُرِيدُ ذَمَّ كَلامِهِ مِن جِهَةِ ما أدّاهُ إلَيْهِ مِن سُوءِ فَهْمِ مَقْصِدِ القُرْآنِ لَوْ دامَ عَلى فَهْمِهِ ذَلِكَ، عَلى عادَتِهِمْ في الصَّراحَةِ في قَوْلِ الحَقِّ، فَصارَ ظاهِرُ الآيَةِ بِحَسَبَ المُتَعارَفِ مُؤَوَّلًا بِمَعْرِفَةِ سَبَبِ التَّصَدِّي لِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ الطّائِفِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ.

فالجُناحُ المَنفِيُّ في الآيَةِ جُناحٌ عَرَضَ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةَ في نَصْبِ إسافٍ ونائِلَةَ عَلَيْهِما ولَيْسَ لِذاتِ السَّعْيِ، فَلَمّا زالَ سَبَبُهُ زالَ الجُناحُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: ١٢٨] فَنَفى الجُناحَ عَنِ التَّصالُحِ وأثْبَتَ لَهُ أنَّهُ خَيْرٌ فالجُناحُ المَنفِيُّ عَنِ الصُّلْحِ ما عَرَضَ قَبْلَهُ مِن أسْبابِ النُّشُوزِ والإعْراضِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهم فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٨٢] مَعَ أنَّ الإصْلاحَ بَيْنَهم مُرَغَّبٌ فِيهِ وإنَّما المُرادُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِيما نَقَصَ مِن حَقِّ أحَدِ الجانِبَيْنِ وهو إثْمٌ عارِضٌ.

والآيَةُ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِالإخْبارِ عَنْهُما بِأنَّهُما مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَلِأجْلِ هَذا اخْتَلَفْتِ المَذاهِبُ في حُكْمِ السَّعْيِ؛ فَذَهَبَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في أشْهَرِ الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ إلى أنَّهُ فَرْضٌ مِن أرْكانِ الحَجِّ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ والجُمْهُورِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ مِن أفْعالِ الحَجِّ وقَدِ اهْتَمَّ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ وبادَرَ إلَيْهِ كَما في حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ والمُوَطَّأِ فَلَمّا تَرَدَّدَ فِعْلُهُ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ والفَرْضِيَّةِ، قالَ مالِكٌ بِأنَّهُ فَرْضُ قَضاءٍ لَحِقَ الِاحْتِياطَ ولِأنَّهُ فِعْلٌ بِسائِرِ البَدَنِ مِن خَصائِصِ الحَجِّ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ فَيُقاسُ عَلى الوُقُوفِ وطَوافِ الإفاضَةِ والإحْرامِ، بِخِلافِ رَكْعَتَيِ الطَّوافِ فَإنَّهُما فِعْلٌ لَيْسَ مِن خَصائِصِ الحَجِّ لِأنَّهُ صَلاةٌ، وبِخِلافِ تَرْكِ لُبْسِ المَخِيطِ فَإنَّهُ تَرْكٌ، وبِخِلافِ رَمْيِ الجِمارِ فَإنَّهُ فِعْلٌ بَعُضْوٍ وهو اليَدُ. وقَوْلِي لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ

صفحة ٦٤

لِإخْراجِ طَوافِ القُدُومِ فَإنَّهُ وإنْ كانَ فِعْلًا بِجَمِيعِ البَدَنِ إلّا أنَّهُ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ وهو الإفاضَةُ فَأغْنى عَنْ جَعْلِهِ فَرْضًا، ولِقَوْلِهِ في الحَدِيثِ: «اسْعَوْا فَإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ»، والأمْرُ ظاهِرٌ في الوُجُوبِ، والأصْلُ أنَّ الفَرْضَ والواجِبَ مُتَرادِفانِ عِنْدَنا لا في الحَجِّ، فالواجِبُ دُونَ الفَرْضِ لَكِنَّ الوُجُوبَ الَّذِي هو مَدْلُولُ الأمْرِ مُساوٍ لِلْفَرْضِ.

وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّهُ واجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالنُّسُكِ واحْتَجَّ الحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ في الدَّلالَةِ فَلا يَكُونُ فَرْضًا بَلْ واجِبًا لِأنَّ الآيَةَ قَطْعِيَّةُ المَتْنِ فَقَطْ والحَدِيثُ ظَنِّيٌّ فِيهِما، والجَوابُ أنَّ مَجْمُوعَ الظّاهِرِ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ يَدُلُّ عَلى الفَرْضِيَّةِ وإلّا فالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لا دَلِيلَ عَلى فَرْضِيَّتِهِ وكَذَلِكَ الإحْرامُ فَمَتى يَثْبُتُ هَذا النَّوْعُ المُسَمّى عِنْدَهم بِالفَرْضِ، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إلى أنَّهُ سُنَّةٌ.

وقَوْلُهُ ﴿ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ لِما أفادَتْهُ الآيَةُ مِنَ الحَثِّ عَلى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِمَفادِ قَوْلِهِ ﴿مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾، والمَقْصِدُ مِن هَذا التَّذْيِيلِ الإتْيانُ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ في أفْعالِ الخَيْراتِ كُلِّها مِن فَرائِضَ ونَوافِلَ أوْ نَوافِلَ فَقَطْ فَلَيْسَ المَقْصُودُ مِن خَيْرًا خُصُوصَ السَّعْيِ لِأنَّ خَيْرًا نَكِرَةٌ في سِياقِ الشَّرْطِ فَهي عامَّةٌ ولِهَذا عُطِفَتِ الجُمْلَةُ بِالواوِ دُونَ الفاءِ لِئَلّا يَكُونَ الخَيْرُ قاصِرًا عَلى الطَّوافِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ الصِّيامِ في قَوْلِهِ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعامِ مَساكِينَ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهو خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] لِأنَّهُ أُرِيدَ هُنالِكَ بَيانُ أنَّ الصَّوْمَ مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ في الفِطْرِ أفْضَلُ مِن تَرْكِهِ أوْ أنَّ الزِّيادَةَ عَلى إطْعامِ مِسْكِينٍ أفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصارِ عَلَيْهِ كَما سَيَأْتِي.

وتَطَوَّعَ يُطْلَقُ بِمَعْنى فَعَلَ طاعَةً وتَكَلَّفَها، ويُطْلَقُ مُطاوِعُ طَوَّعَهُ أيْ جَعَلَهُ مُطِيعًا فَيَدُلُّ عَلى مَعْنى التَّبَرُّعِ غالِبًا لِأنَّ التَّبَرُّعَ زائِدٌ في الطّاعَةِ. وعَلى الوَجْهَيْنِ فانْتِصابُ خَيْرًا عَلى نَزْعِ الخافِضِ أيْ تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ أوْ بِتَضْمِينِ ”تَطَوَّعَ“ مَعْنى ”فَعَلَ“ أوْ ”أتى“ .

ولَمّا كانَتِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلًا فَلَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ السَّعْيَ مِنَ التَّطَوُّعِ أيْ مِنَ المَندُوباتِ لِأنَّها لِإفادَةِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ بَعْدَ ذِكْرِ تَشْرِيعٍ عَظِيمٍ، عَلى أنَّ تَطَوَّعَ لا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنى تَبَرَّعَ بَلْ يَحْتَمِلُ مَعْنى أتى بِطاعَةٍ أوْ تَكَلَّفَ طاعَةً.

صفحة ٦٥

وقَرَأ الجُمْهُورُ مَن تَطَوَّعَ بِصِيغَةِ الماضِي، وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ وخَلَفٌ ”يَطَّوَّعْ“ بِصِيغَةِ المُضارِعِ وياءِ الغَيْبَةِ وجَزْمِ العَيْنِ.

ومَن هُنا شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ الفاءِ في جَوابِها. وقَوْلُهُ ﴿فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ دَلِيلُ الجَوابِ إذِ التَّقْدِيرُ: ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا جُوزِيَ بِهِ لِأنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أيْ لا يُضِيعُ أجْرَ مُحْسِنٍ، عَلِيمٌ لا يَخْفى عَنْهُ إحْسانُهُ، وذَكَرَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّ تَرْكَ الثَّوابِ عَنِ الإحْسانِ لا يَكُونُ إلّا عَنْ جُحُودٍ لِلْفَضِيلَةِ أوْ جَهْلٍ بِها فَلِذَلِكَ نُفِيا بِقَوْلِهِ شاكِرٌ عَلِيمٌ والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ شاكِرٌ هُنا اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ في جَزاءِ العَبْدِ عَلى الطّاعَةِ بِحالِ الشّاكِرِ لِمَن أسْدى إلَيْهِ نِعْمَةً، وفائِدَةُ هَذا التَّشْبِيهِ تَمْثِيلُ تَعْجِيلِ الثَّوابِ وتَحْقِيقِهِ لِأنَّ حالَ المُحْسَنِ إلَيْهِ أنْ يُبادِرَ بِشُكْرِ المُحْسِنِ.