Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾
لَمّا ذَكَرَ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ إلى اتِّباعِ الدِّينِ بِالإعْراضِ إلى أنْ بَلَغَ قَوْلَهُ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ [البقرة: ١٧٠]، وذَكَرَ فَسادَ عَقِيدَتِهِمْ إلى أنْ بَلَغَ قَوْلَهُ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا﴾ [البقرة: ١٦٥] الآيَةَ، فالمُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا المَضْرُوبِ لَهُمُ المَثَلُ هُنا هو عَيْنُ المُرادِ مِنَ النّاسِ في قَوْلِهِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا﴾ [البقرة: ١٦٥]، وعَيْنُ المُرادِ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا في قَوْلِهِ ﴿ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ١٦٥] وعَيْنُ النّاسِ في قَوْلِهِ ﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨]، وعَيْنُ المُرادِ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ في قَوْلِهِ
صفحة ١١١
وإذا قِيلَ لَهم، عُقِّبَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَمْثِيلِ فَظِيعِ حالِهِمْ إبْلاغًا في البَيانِ واسْتِحْضارًا لَهم بِالمِثالِ، وفائِدَةُ التَّمْثِيلِ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] .وإنَّما عَطَفَهُ بِالواوِ هُنا ولَمْ يُفَصِّلْهُ كَما فُصِّلَ قَوْلُهُ ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] لِأنَّهُ أُرِيدَ هُنا جَعْلُ هَذِهِ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً لَهم في تَلَقِّي دَعْوَةِ الإسْلامِ ولَوْ لَمْ يَعْطِفْهُ لَما صَحَّ ذَلِكَ.
والمَثَلُ هُنا لَمّا أُضِيفَ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا كانَ ظاهِرًا في تَشْبِيهِ حالِهِمْ عِنْدَ سَماعِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ ﷺ إيّاهم إلى الإسْلامِ بِحالِ الأنْعامِ عِنْدَ سَماعِ دَعْوَةِ مَن يَنْعِقُ بِها في أنَّهم لا يَفْهَمُونَ إلّا أنَّ النَّبِيءَ ﷺ يَدْعُوهم إلى مُتابَعَتِهِ مِن غَيْرِ تَبَصُّرٍ في دَلائِلِ صِدْقِهِ وصِحَّةِ دِينِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الحالَةِ المُشَبَّهَةِ والحالَةِ المُشَبَّهِ بِها يَشْتَمِلُ عَلى أشْياءَ: داعٍ ومَدْعُوٍّ ودَعْوَةٍ، وفَهْمٍ وإعْراضٍ وتَصْمِيمٍ، وكُلٌّ مِن هاتِهِ الأشْياءِ الَّتِي هي أجْزاءُ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِجُزْءٍ مِن أجْزاءِ المُشَبَّهِ بِهِ، وهَذا مِن أبْدَعِ التَّمْثِيلِ وقَدْ أوْجَزَتْهُ الآيَةُ إيجازًا بَدِيعًا، والمَقْصُودُ ابْتِداءً هو تَشْبِيهُ حالِ الكُفّارِ لا مَحالَةَ، ويَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَشْبِيهُ حالِ النَّبِيءِ وحالِ دَعْوَتِهِ، ولِلْكُفّارِ هُنا حالَتانِ: إحْداهُما حالَةُ الإعْراضِ عَنْ داعِي الإسْلامِ، والثّانِيَةُ حالَةُ الإقْبالِ عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ، وقَدْ تَضَمَّنَتِ الحالَتَيْنِ الآيَةُ السّابِقَةُ وهي قَوْلُهُ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ [البقرة: ١٧٠] وأعْظَمُهُ عِبادَةُ الأصْنامِ، فَجاءَ هَذا المَثَلُ بَيانًا لِما طُوِيَ في الآيَةِ السّابِقَةِ.
فَإنْ قُلْتَ: مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ غَنَمِ الَّذِي يَنْعِقُ؛ لِأنَّ الكُفّارَ هُمُ المُشَبَّهُونَ والَّذِي يَنْعَقُ يُشْبِهُهُ داعِي الكُفّارِ فَلِماذا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ ؟ وهَلْ هَذا الأُسْلُوبُ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ تَشْبِيهُ النَّبِيءِ ﷺ في دُعائِهِ لَهم بِالَّذِي يَنْعِقُ ؟ قُلْتُ: كِلا الأمْرَيْنِ مُنْتَفٍ؛ فَإنَّ قَوْلَهُ: ومَثَلُ الَّذِينَ صَرِيحٌ في أنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: ١٧]، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتْ أجْزاءُ المُرَكَّبَيْنِ غَيْرَ مَنظُورٍ إلَيْها اسْتِقْلالًا وأيُّها ذَكَرْتَ في جانِبِ المُرَكَّبِ المُشَبَّهِ والمُرَكَّبِ المُشَبَّهِ بِهِ أجْزَأكَ، وإنَّما كانَ الغالِبُ أنْ يَبْدَءُوا الجُمْلَةَ الدّالَّةَ عَلى المُرَكَّبِ المُشَبَّهِ بِهِ بِما يُقابِلُ المَذْكُورَ في المُرَكَّبِ المُشَبَّهِ نَحْوِ ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] وقَدْ لا يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ، فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ﴾ [آل عمران: ١١٧] الآيَةَ.
والَّذِي يُقابِلُ ما يُنْفِقُونَ في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ هو قَوْلُهُ حَرْثَ قَوْمٍ وقالَ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ صفحة ١١٢
وقَدْ جَوَّزَ المُفَسِّرُونَ أنْ يَكُونَ التَّمْثِيلُ عَلى إحْدى الطَّرِيقَتَيْنِ، وعِنْدِي أنَّ الجَمْعَ بَيْنَهُما مُمْكِنٌ ولَعَلَّهُ مِن مُرادِ اللَّهِ تَعالى؛ فَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ يَحْتَمِلُ كُلَّ ما حَمَّلْتُهُ مِنَ الهَيْئَةِ كُلِّها، وهَيْئَةُ المُشْرِكِينَ في تَلَقِّي الدَّعْوَةِ عَلى إعْراضٍ عَنْها وإقْبالٍ عَلى دِينِهِمْ كَما هو مَدْلُولُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ﴾ [البقرة: ١٧٠] الآيَةَ، فَهَذِهِ الحالَةُ كُلُّها تُشْبِهُ حالَ النّاعِقِ بِما لا يَسْمَعُ، فالنَّبِيءُ يَدْعُوهم كَناعِقٍ بِغَنَمٍ لا تَفْقَهُ دَلِيلًا، وهم يَدْعُونَ أصْنامَهم كَناعِقٍ بِغَنَمٍ لا تَفْقَهُ شَيْئًا.
ومِن بَلاغَةِ القُرْآنِ صُلُوحِيَّةُ آياتِهِ لِمَعانٍ كَثِيرَةٍ يَفْرِضُها السّامِعُ.
والنَّعْقُ نِداءُ الغَنَمِ وفِعْلُهُ كَضَرَبَ ومَنَعَ ولَمْ يُقْرَأْ إلّا بِكَسْرِ العَيْنِ فَلَعَلَّ وزْنَ ضَرَبَ فِيهِ أفْصَحُ وإنْ كانَ وزْنُ مَنَعَ أقْيَسَ، وقَدْ أخَذَ الأخْطَلُ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ يَصِفُ جَرِيرًا
صفحة ١١٣
بِأنْ لا طائِلَ في هِجائِهِ الأخْطَلَ:فانْعِقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فَإنَّما مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الظَّلامِ ضَلالا
والدُّعاءُ والنِّداءُ قِيلَ بِمَعْنًى واحِدٍ، فَهو تَأْكِيدٌ ولا يَصِحُّ، وقِيلَ الدُّعاءُ لِلْقَرِيبِ والنِّداءُ لِلْبَعِيدِ، وقِيلَ الدُّعاءُ ما يُسْمَعُ والنِّداءُ قَدْ يُسْمَعُ وقَدْ لا يُسْمَعُ ولا يَصِحُّ.والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِهِما نَوْعانِ مِنَ الأصْواتِ الَّتِي تَفْهَمُها الغَنَمُ، فالدُّعاءُ ما يُخاطَبُ بِهِ الغَنَمُ مِنَ الأصْواتِ الدّالَّةِ عَلى الزَّجْرِ وهي أسْماءُ الأصْواتِ، والنّادِرُ رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَيْها لِتَجْتَمِعَ إلى رُعاتِها، ولا يَجُوزَ أنْ يَكُونا بِمَعْنًى واحِدٍ مَعَ وُجُودِ العَطْفِ؛ لِأنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ لا يُعْطَفُ فَإنَّ حَقِيقَةَ النِّداءِ رَفْعُ الصَّوْتِ لِإسْماعِ الكَلامِ، أوِ المُرادُ بِهِ هُنا نِداءُ الرِّعاءِ بَعْضَهم بَعْضًا لِلتَّعاوُنِ عَلى ذَوْدِ الغَنَمِ، وسَيَأْتِي مَعْنى النِّداءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ﴾ [الأعراف: ٤٣] في سُورَةِ الأعْرافِ.
وقَوْلُهُ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أخْبارٌ لِمَحْذُوفٍ عَلى طَرِيقَةِ الحَذْفِ المُعَبَّرِ عَنْهُ في عِلْمِ المَعانِي بِمُتابَعَةِ الِاسْتِعْمالِ بَعْدَ أنْ أجْرى عَلَيْهِمُ التَّمْثِيلَ، والأوْصافُ إنْ رَجَعَتْ لِلْمُشْرِكِينَ فَهي تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وهو الظّاهِرُ وإنْ رَجَعَتْ إلى الأصْنامِ المَفْهُومَةِ مِن يَنْعِقُ عَلى أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ فَهي حَقِيقَةٌ، وتَكُونُ شاهِدًا عَلى صِحَّةِ الوَصْفِ بِالعَدَمِ لِمَن لا يَصِحُّ اتِّصافُهُ بِالمَلَكَةِ كَقَوْلِكَ لِلْحائِطِ: هو أعْمى، إلّا أنْ يُجابَ بِأنَّ الأصْنامَ لَمّا فَرَضَها المُشْرِكُونَ عُقَلاءَ آلِهَةً وأُرِيدَ إثْباتُ انْعِدامِ الإحْساسِ مِنهم عُبِّرَ عَنْها بِهَذِهِ الأوْصافِ تَهَكُّمًا بِالمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ كَقَوْلِ إبْراهِيمَ ﴿يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] .
وقَوْلُهُ فَهم لا يَعْقِلُونَ تَفْرِيعٌ كَمَجِيءِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ البُرْهانِ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ راجِعًا لِلْمُشْرِكِينَ فالِاسْتِنْتاجُ عَقِبَ الِاسْتِدْلالِ ظاهِرٌ لِخَفاءِ النَّتِيجَةِ في بادِئِ الرَّأْيِ، أيْ إنْ تَأمَّلْتُمْ وجَدْتُمُوهم لا يَعْقِلُونَ؛ لِأنَّهم كالأنْعامِ والصُّمِّ والبُكْمِ إلَخْ، وإنْ كانَ راجِعًا لِلْأصْنامِ فالِاسْتِنْتاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلى غَباوَةِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوها. ومَجِيءُ الضَّمِيرِ لَهم بِضَمِيرِ العُقَلاءِ تَهَكَّمٌ بِالمُشْرِكِينَ لِأنَّهم جَعَلُوا الأصْنامَ في أعْلى مَراتِبِ العُقَلاءِ كَما تَقَدَّمَ.