﴿وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى لَكم ولِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكم بِهِ وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ﴾ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمُ أوْ يُعَذِّبَهم فَإنَّهم ظالِمُونَ﴾ .

يَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِنِ اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: ١٢٣] والمَعْنى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ حِينَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ما وعَدَكَ اللَّهُ بِهِ في حالِ أنَّ اللَّهَ ما جَعَلَ ذَلِكَ الوَعْدَ إلّا بُشْرى لَكم وإلّا فَإنَّهُ وعَدَكُمُ النَّصْرَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ أنَّها لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧] الآيَةَ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ عَطْفَ الإخْبارِ عَلى التَّذْكِيرِ والِامْتِنانِ. وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ في مَقامِ الإضْمارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ العِنايَةِ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، والخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ والمُسْلِمِينَ.

وضَمِيرُ النَّصْبِ في قَوْلِهِ جَعَلَهُ عائِدٌ إلى الإمْدادِ المُسْتَفادِ مِن يُمْدِدْكم أوْ إلى الوَعْدِ المُسْتَفادِ مِن قَوْلِهِ ﴿إنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٢٥] الآيَةَ.

والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ. وبُشْرى مَفْعُولٌ ثانٍ لِ (جَعَلَهُ) أيْ ما جَعَلَ اللَّهُ الإمْدادَ والوَعْدَ بِهِ إلّا أنَّهُ بُشْرى، أيْ جَعَلَهُ بُشْرى، ولَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرَ ذَلِكَ.

و(لَكم) مُتَعَلِّقٌ بِبُشْرى. وفائِدَةُ التَّصْرِيحِ بِهِ مَعَ ظُهُورِ أنَّ البُشْرى إلَيْهِمْ هي

صفحة ٧٨

الدَّلالَةُ عَلى تَكْرِمَةِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم بِأنْ بَشَّرَهم بُشْرى لِأجْلِهِمْ كَما في التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] .

والبُشْرى اسْمٌ لِمَصْدَرِ بَشَّرَ كالرُّجْعى، والبُشْرى خَبَرٌ بِحُصُولِ ما فِيهِ نَفْعٌ ومَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، فَإنَّ اللَّهَ لَمّا وعَدَهم بِالنَّصْرِ أيْقَنُوا بِهِ فَكانَ في تَبْيِينِ سَبَبِهِ وهو الإمْدادُ بِالمَلائِكَةِ طَمْأنَةٌ لِنُفُوسِهِمْ لِأنَّ النُّفُوسَ تَرْكَنُ إلى الصُّوَرِ المَأْلُوفَةِ.

والطَّمْأنَةُ والطُّمَأْنِينَةُ: السُّكُونُ وعَدَمُ الِاضْطِرابِ، واسْتُعِيرَتْ هُنا لِيَقِينِ النَّفْسِ بِحُصُولِ الأمْرِ تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الثّابِتِ بِثَباتِ النَّفْسِ أيْ عَدَمِ اضْطِرابِها، وتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وعُطِفَ (ولِتَطْمَئِنَّ) عَلى بُشْرى فَكانَ داخِلًا في حَيِّزِ الِاسْتِثْناءِ فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مِن عِلَلٍ، أيْ ما جَعَلَهُ اللَّهُ لِأجْلِ شَيْءٍ إلّا لِأجْلِ أنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُكم بِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ تَذْيِيلٌ أيْ كُلُّ نَصْرٍ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ لا مِنَ المَلائِكَةِ. وإجْراءُ وصْفَيِ ﴿العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ هُنا لِأنَّهُما أوْلى بِالذِّكْرِ في هَذا المَقامِ، لِأنَّ العَزِيزَ يَنْصُرُ مَن يُرِيدُ نَصْرَهُ، والحَكِيمُ يَعْلَمُ مَن يَسْتَحِقُّ نَصْرَهُ وكَيْفَ يُعْطاهُ.

وقَوْلُهُ ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّصْرِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ عِلَّةٌ لِبَعْضِ أحْوالِ النَّصْرِ، أيْ لِيَقْطَعَ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ المُشْرِكِينَ.

والطَّرَفُ بِالتَّحْرِيكِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى النّاحِيَةِ، ويُخَصُّ بِالنّاحِيَةِ الَّتِي هي مُنْتَهى المَكانِ، قالَ أبُو تَمّامٍ:

كانَتْ هي الوَسَطَ المَحْمِيَّ فاتَّصَلَتْ بِها الحَوادِثُ حَتّى أصْبَحَتْ طَرَفا

فَيَكُونُ اسْتِعارَةً لِطائِفَةٍ مِنَ المُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ [الرعد: ٤١] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الجُزْءِ المُتَطَرِّفِ مِنَ الجَسَدِ

صفحة ٧٩

كاليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ والرَّأْسِ فَيَكُونُ مُسْتَعارًا هُنا لِأشْرافِ المُشْرِكِينَ، أيْ لِيَقْطَعَ مِن جِسْمِ الشِّرْكِ أهَمَّ أعْضائِهِ، أيْ لِيَسْتَأْصِلَ صَنادِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وتَنْكِيرُ (طَرَفًا) لِلتَّفْخِيمِ، ويُقالُ: هو مِن أطْرافِ العَرَبِ، أيْ مِن أشْرافِها وأهْلِ بُيُوتاتِها.

ومَعْنى ﴿أوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يُصِيبَهم بِغَمٍّ وكَمَدٍ، وأصْلُ كَبَتَ كَبَدَ بِالدّالِ إذا أصابَهُ في كَبِدِهِ. كَقَوْلِهِمْ: صُدِرَ إذا أُصِيبَ في صَدْرِهِ، وكُلِيَ إذا أُصِيبَ في كُلْيَتِهِ، ومُتِنَ إذا أُصِيبَ في مَتْنِهِ، ورُئِيَ إذا أُصِيبَ في رِئَتِهِ، فَأُبْدِلَتِ الدّالُ تاءً وقَدْ تُبْدَلُ التّاءُ دالًا كَقَوْلِهِمْ: سَبَدَ رَأْسَهُ وسَبَتَهُ أيْ حَلَقَهُ. والعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الغَمَّ والحُزْنَ مَقَرُّهُ الكَبِدُ، والغَضَبَ مَقَرُّهُ الصَّدْرُ وأعْضاءُ التَّنَفُّسِ. قالَ أبُو الطَّيِّبِ يَمْدَحُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ حِينَ سَفَرِهِ عَنْ أنْطاكِيَةَ:

لِأكْبِتَ حاسِدًا وأُرِي عَدُوًّا ∗∗∗ كَأنَّهُما وداعُكَ والرَّحِيلُ

وقَدِ اسْتَقْرى أحْوالَ الهَزِيمَةِ فَإنَّ فَرِيقًا قُتِلُوا فَقُطِعَ بِهِمْ طَرَفٌ مِنَ الكافِرِينَ، وفَرِيقًا كُبِتُوا وانْقَلَبُوا خائِبِينَ، وفَرِيقًا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالإسْلامِ، فَأسْلَمُوا، وفَرِيقًا عُذِّبُوا بِالمَوْتِ عَلى الكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، أوْ عُذِّبُوا في الدُّنْيا بِالذُّلِّ، والصَّغارِ، والأسْرِ، والمَنِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الفَتْحِ، بَعْدَ أخْذِ بَلَدِهِمْ و(أوْ) بَيْنَ هَذِهِ الأفْعالِ لِلتَّقْسِيمِ.

وهَذا القَطْعُ والكَبْتُ قَدْ مَضَيا يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ، فالتَّعْبِيرُ عَنْهُما بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِقَصْدِ اسْتِحْضارِ الحالَةِ العَجِيبَةِ في ذَلِكَ النَّصْرِ المُبِينِ العَزِيزِ النَّظِيرِ.

وجُمْلَةُ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ، والخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ، فَيَجُوزُ أنْ تُحْمَلَ عَلى صَرِيحِ لَفْظِها، فَيَكُونُ المَعْنى نَفْيُ أنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ، لِقِتالِهِ الكُفّارَ بِجَيْشِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ، تَأْثِيرٌ في حُصُولِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا في قِلَّةٍ مِن كُلِّ جانِبٍ مِن جَوانِبِ القِتالِ، أيْ فالنَّصْرُ حَصَلَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ عَلى المُسْلِمِينَ، وهَذا مِن مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: ١٧] .

صفحة ٨٠

ولَفْظُ الأمْرِ مِن قَوْلِهِ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ مَعْناهُ الشَّأْنُ، و(ال) فِيهِ لِلْعَهْدِ، أيْ مِنَ الشَّأْنِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ وهو النَّصْرُ.

ويَجُوزُ أنْ تُحْمَلَ الجُمْلَةُ عَلى أنَّها كِنايَةٌ عَنْ صَرْفِ النَّبِيءِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَنِ الِاشْتِغالِ بِشَأْنِ ما صَنَعَ اللَّهُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، مِن قَطْعِ طَرَفِهِمْ، وكَبْتِهِمْ أوْ تَوْبَةٍ عَلَيْهِمْ، أوْ تَعْذِيبٍ لَهم: أيْ فَلِذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَيْنا نُحَقِّقُهُ مَتى أرَدْنا، ويَتَخَلَّفُ مَتى أرَدْنا، عَلى حَسْبِ ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُنا، وذَلِكَ كالِاعْتِذارِ عَنْ تَخَلُّفِ نَصْرِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.

فَلَفْظُ الأمْرِ بِمَعْنى شَأْنِ المُشْرِكِينَ. والتَّعْرِيفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ لَيْسَ لَكَ مِن أمْرِهِمُ اهْتِمامٌ. وهَذا تَذْكِيرٌ بِما كانَ لِلنَّبِيءِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ مِن تَخَوُّفِ ظُهُورِ المُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وإلْحاحِهِ في الدُّعاءِ بِالنَّصْرِ. ولَعَلَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ يَوَدُّ اسْتِئْصالَ جَمِيعِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ وجَدَ مُقْتَضى ذَلِكَ وهو نُزُولُ المَلائِكَةِ لِإهْلاكِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يُقَدِّرِ اسْتِيصالَهم جَمِيعًا بَلْ جَعَلَ الِانْتِقامَ مِنهم ألْوانًا فانْتَقَمَ مِن طائِفَةٍ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنهم، ومِن بَقِيَّتِهِمْ بِالكَبْتِ، وهو الحُزْنُ عَلى قَتْلاهم، وذَهابُ رُؤَسائِهِمْ، واخْتِلالُ أُمُورِهِمْ، واسْتَبْقى طائِفَةً لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويَهْدِيَهم، فَيَكُونُوا قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وهم مَن آمَنَ مِن أهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الفَتْحِ، ويَوْمَ الفَتْحِ: مِثْلُ أبِي سُفْيانَ، والحارِثِ بْنِ هِشامٍ أخِي أبِي جَهْلٍ، وعِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْلٍ، وصَفْوانِ بْنِ أُمَيَّةَ، وخالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، وعَذَّبَ طائِفَةً عَذابَ الدُّنْيا بِالأسْرِ، أوْ بِالقَتْلِ: مِثْلَ ابْنِ خَطَلٍ، والنَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ . ووُضِعَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ لِيَظْهَرَ أنَّ المُرادَ مِنَ الأمْرِ الدّائِرِ بَيْنَ هَذِهِ الأحْوالِ الأرْبَعَةِ مِن أحْوالِ المُشْرِكِينَ، أيْ لَيْسَ لَكَ مِن أمْرِ هَذِهِ الأحْوالِ الأرْبَعَةِ شَيْءٌ ولَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إلى اللَّهِ، هو أعْلَمُ بِما سَيَصِيرُونَ إلَيْهِ وجَعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ ﴿أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ اسْتِئْناسٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ، إذْ قَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلى الِانْتِقامِ مِنهم لِأجْلِهِ، ثُمَّ أرْدَفَ بِما يَدُلُّ عَلى العَفْوِ عَنْهم، ثُمَّ

صفحة ٨١

أرْدَفَ بِما يَدُلُّ عَلى عِقابِهِمْ، فَفي بَعْضِ هَذِهِ الأحْوالِ إرْضاءٌ لَهُ مِن جانِبِ الِانْتِصارِ لَهُ، وفي بَعْضِها إرْضاءٌ لَهُ مِن جانِبِ تَطْوِيعِهِمْ لَهُ. ولِأجْلِ هَذا المَقْصِدِ عادَ الكَلامُ إلى بَقِيَّةِ عُقُوباتِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعالى أوْ يُعَذِّبَهم.

ولِكَوْنِ التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ بَدْرٍ وقَعَ في خِلالِ الإشارَةِ إلى وقْعَةِ أُحُدٍ، كَأنَّ في هَذا التَّقْسِيمِ إيماءً إلى ما يَصْلُحُ بَيانًا لِحِكْمَةِ الهَزِيمَةِ اللّاحِقَةِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، إذْ كانَ في اسْتِبْقاءِ كَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، لَمْ يُصِبْهُمُ القَتْلُ يَوْمَئِذٍ، ادِّخارُ فَرِيقٍ عَظِيمٍ مِنهم لِلْإسْلامِ فِيما بَعْدُ، بَعْدَ أنْ حَصَلَ رُعْبُهم مِنَ المُسْلِمِينَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وإنْ حَسَبُوا لِلْمُسْلِمِينَ أيَّ حِسابٍ بِما شاهَدُوهُ مِن شَجاعَتِهِمْ يَوْمَ ٧٢ أُحُدٍ، وإنْ لَمْ يَنْتَصِرُوا. ولا يَسْتَقِيمُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ مُتَعَلِّقًا بِأحْوالِ يَوْمِ أُحُدٍ: لِأنَّ سِياقَ الكَلامِ يَنْبُو عَنْهُ، وحالُ المُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ لا يُناسِبُهُ قَوْلُهُ ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قَوْلِهِ خائِبِينَ.

ووَقَعَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ شُجَّ وجْهُهُ، وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وجاءَ المُسْلِمُونَ يَمْسَحُونَ الدَّمَ عَنْ وجْهِ نَبِيِّهِمْ، فَقالَ النَّبِيءُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذا بِنَبِيِّهِمْ وهو يَدْعُوهم إلى رَبِّهِمْ» أيْ في حالِ أنَّهُ يَدْعُوهم إلى الخَيْرِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، ومَعْناهُ: لا تَسْتَبْعِدْ فَلاحَهم. ولا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُتَأوِّلٌ عَلى إرادَةِ: فَذُكِّرَ النَّبِيءُ ﷺ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِظُهُورِ أنَّ ما ذَكَرُوهُ غَيْرُ صالِحٍ لِأنْ يَكُونَ سَبَبًا لِأنَّ النَّبِيءَ تَعَجَّبَ مِن فَلاحِهِمْ أوِ اسْتَبْعَدَهُ، ولَمْ يَدَّعِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، أوْ عَمَلًا، حَتّى يُقالَ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ . ورَوى التِّرْمِذِيُّ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا عَلى أرْبَعَةٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، وسَمّى أُناسًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أسْلَمُوا» . وقِيلَ: إنَّهُ هَمَّ بِالدُّعاءِ، أوِ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِيصالِ، فَنُهِيَ. ويَرُدُّ هَذِهِ الوُجُوهَ ما في صَحِيحِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: «كَأنِّي أنْظُرُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وجْهِهِ، وهو يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ» .

صفحة ٨٢

ووُرُودُ أنَّهُ «لَمّا شُجَّ وجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ قالَ لَهُ أصْحابُهُ: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّانًا، ولَكِنِّي بُعِثْتُ داعِيًا ورَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ» . وما ثَبَتَ مِن خُلُقِهِ ﷺ: أنَّهُ كانَ لا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.

وأغْرَبَ جَماعَةٌ فَقالُوا نَزَلَ قَوْلُهُ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ نَسْخًا لِما كانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيءُ ﷺ في قُنُوتِهِ عَلى رِعْلٍ، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ، ولِحْيانَ، الَّذِينَ قَتَلُوا أصْحابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وسَنَدُهم في ذَلِكَ ما وقَعَ في البُخارِيِّ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كَلامٌ ضَعِيفٌ كُلُّهُ ولَيْسَ هَذا مِن مَواضِعِ النّاسِخِ والمَنسُوخِ. وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ نَزَلَتْ لِنَسْخِ ذَلِكَ وهي مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ الواقِعِ يَوْمَ بَدْرٍ. وتَفْسِيرُ ما وقَعَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيءَ تَرَكَ الدُّعاءَ عَلى المُشْرِكِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أخْذًا لِكامِلِ الأدَبِ، لِأنَّ اللَّهَ لَمّا أعْلَمَهُ في هَذا بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ أعْلَمُ بِما فِيهِ نَفْعُ الإسْلامِ، ونِقْمَةُ الكُفْرِ، تَرَكَ الدُّعاءَ عَلَيْهِمْ إذْ لَعَلَّهم أنْ يُسْلِمُوا. وإذْ جَعَلْنا دُعاءَهُ ﷺ عَلى قَبائِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ في القُنُوتِ شَرْعًا تَقَرَّرَ بِالِاجْتِهادِ في مَوْضِعِ الإباحَةِ لِأنَّ أصْلَ الدُّعاءِ عَلى العَدُّوِ مُباحٌ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، مِن قَبِيلِ النَّسْخِ بِالقِياسِ، نَسَخَتْ حُكْمَ الإباحَةِ الَّتِي هي اسْتِواءُ الفِعْلِ والتَّرْكِ بِإثْباتِ حُكْمِ أوْلَوِيَّةِ الفِعْلِ.

ومِنهم مَن أبْعَدَ المَرْمى، وزَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ مَنصُوبٌ بِأنْ مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا، وأنَّ أوْ بِمَعْنى حَتّى: أيْ لَيْسَ لَكَ مِن أمْرِ إيمانِهِمْ شَيْءٌ حَتّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أيْ لا يُؤْمِنُونَ إلّا إذا تابَ عَلَيْهِمْ، وهَلْ يَجْهَلُ هَذا أحَدٌ حَتّى يَحْتاجَ إلى بَيانِهِ، عَلى أنَّ الجُمْلَةَ وقَعَتْ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ، فَكَيْفَ يُشَتَّتُ الكَلامُ، وتَنْتَشِرُ المُتَعاطِفاتُ.

ومِنهم مَن جَعَلَ ﴿أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ (الأمْرِ) أوْ عَلى قَوْلِهِ (شَيْءٌ)، مِن عَطْفِ الفِعْلِ عَلى اسْمٍ خالِصٍ بِإضْمارِ أنْ عَلى سَبِيلِ الجَوازِ، أيْ لَيْسَ لَكَ مِن أمْرِهِمْ أوْ تَوْبَتِهِمْ شَيْءٌ، أوْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ (شَيْءٌ) أوْ تَوْبَةٌ عَلَيْهِمْ.

صفحة ٨٣

فَإنْ قُلْتَ: هَلّا جَمَعَ العُقُوباتِ مُتَوالِيَةً: فَقالَ ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ﴾، أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أوْ يُعَذِّبَهم، قُلْتُ: رُوعِيَ قَضاءُ حَقِّ جَمْعِ النَّظِيرِ أوَّلًا، وجَمْعِ الضِّدَّيْنِ ثانِيًا، بِجَمْعِ القَطْعِ والكَبْتِ، ثُمَّ جَمْعِ التَّوْبَةِ والعَذابِ، عَلى نَحْوِ ما أجابَ بِهِ أبُو الطَّيِّبِ عَنْ نَقْدِ قَوْلِهِ في سَيْفِ الدَّوْلَةِ:

وقَفْتَ وما في المَوْتِ شَكٌّ لِواقِفٍ ∗∗∗ كَأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدى وهْوَ نائِمُ

تَمُرُّ بِكَ الأبْطالُ كَلْمى حَزِينَةً ∗∗∗ ووَجْهُكَ وضّاحٌ وثَغْرُكَ باسِمُ

إذْ قَدَّمَ مِن صِفَتَيْهِ تَشْبِيهَهُ بِكَوْنِهِ في جَفْنِ الرَّدى لِمُناسَبَةِ المَوْتِ، وأخَّرَ الحالَ وهي ووَجْهُكَ وضّاحٌ لِمُضادَّةِ قَوْلِهِ كَلْمى حَزِينَةً في قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ في كُتُبِ الأدَبِ.

واللّامُ الجارَّةُ لامُ المِلْكِ، وكافُ الخِطابِ لِمُعَيَّنٍ، وهو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - .

وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرى المَثَلِ إذْ‌ رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا وجِيزًا مَحْذُوفًا مِنهُ بَعْضُ الكَلِماتِ، ولَمْ أظْفَرْ، فِيما حَفِظْتُ مِن غَيْرِ القُرْآنِ، بِأنَّها كانَتْ مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ العَرَبِ، فَلَعَلَّها مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ، وقَرِيبٌ مِنها قَوْلُهُ ﴿وما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [الممتحنة: ٤] وسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنها في قَوْلِهِ الآتِي ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ١٥٤] و﴿يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا﴾ [آل عمران: ١٥٤] فَإنْ كانَتْ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلى أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ العَرَبِ، وإنْ كانَ حِكايَةً بِالمَعْنى فَلا.

وقَوْلُهُ ﴿فَإنَّهم ظالِمُونَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهم بِالعُقُوبَةِ أجْدَرُ، وأنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ إنْ وقَعَتْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى.