﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكم ونُدْخِلْكم مَدْخَلًا كَرِيمًا﴾ .

اعْتِراضٌ ناسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ ذَنْبَيْنِ كَبِيرَيْنِ: وهُما قَتْلُ النَّفْسِ، وأكْلُ المالِ بِالباطِلِ، عَلى عادَةِ القُرْآنِ في التَّفَنُّنِ مِن أُسْلُوبٍ إلى أُسْلُوبٍ، وفي انْتِهازِ الفُرَصِ في إلْقاءِ التَّشْرِيعِ عَقِبَ المَواعِظِ وعَكْسِهِ.

وقَدْ دَلَّتْ إضافَةُ ”كَبائِرَ“ إلى ”ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ“ عَلى أنَّ المَنهِيّاتِ قِسْمانِ: كَبائِرُ، ودُونَها، وهي الَّتِي تُسَمّى الصَّغائِرَ، وصْفًا بِطَرِيقِ المُقابَلَةِ، وقَدْ سُمِّيَتْ هُنا سَيِّئاتٌ. ووَعَدَ بِأنَّهُ يَغْفِرُ السَّيِّئاتِ لِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ المَنهِيّاتِ، وقالَ في آيَةِ النَّجْمِ ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢] فَسَمّى الكَبائِرَ فَواحِشَ وسَمّى مُقابِلَها اللَّمَمَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ المَعاصِيَ عِنْدَ اللَّهِ قِسْمانِ: مَعاصٍ كَبِيرَةٌ فاحِشَةٌ، ومَعاصٍ دُونَ ذَلِكَ يَكْثُرُ أنْ يُلِمَّ المُؤْمِنُ بِها، ولِذَلِكَ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَعْيِينِ الكَبائِرِ. فَعَنْ عَلِيٍّ: هي سَبْعٌ: الإشْراكُ بِاللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ، وأكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والفِرارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، والتَّعَرُّبُ بَعْدَ الهِجْرَةِ. واسْتَدَلَّ لِجَمِيعِها بِما في القُرْآنِ مِن أدِلَّةِ جازِمِ النَّهْيِ عَنْها. وفي حَدِيثِ البُخارِيِّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «اتَّقُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ» . فَذَكَرَ الَّتِي ذَكَرَها عَلِيٌّ إلّا أنَّهُ جَعَلَ السِّحْرَ عِوَضَ التَّعَرُّبِ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هي تِسْعٌ بِزِيادَةِ الإلْحادِ في المَسْجِدِ الحَرامِ، وعُقُوقِ الوالِدَيْنِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هي ما نُهِيَ عَنْهُ مِن أوَّلِ سُورَةِ النِّساءِ إلى هُنا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كُلُّ ما ورَدَ عَلَيْهِ وعِيدُ نارٍ أوْ عَذابٌ أوْ لَعْنَةٌ فَهو كَبِيرَةٌ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الكَبائِرُ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ في كِتابِهِ. وأحْسَنُ ضَبْطٍ لِلْكَبِيرَةِ قَوْلُ إمامِ الحَرَمَيْنِ: هي كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِراثِ مُرْتَكِبِها بِالدِّينِ

صفحة ٢٧

وبِضَعْفِ دِيانَتِهِ. ومِنَ السَّلَفِ مَن قالَ: الذُّنُوبُ كُلُّها سَواءٌ، إنْ كانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وعَنْ أبِي إسْحاقَ الإسْفَرائِينِيِّ أنَّ الذُّنُوبَ كُلَّها سَواءٌ مُطْلَقًا، ونَفى الصَّغائِرَ. وهَذانِ القَوْلانِ واهِيانِ لِأنَّ الأدِلَّةَ شاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إلى قِسْمَيْنِ، ولِأنَّ ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ المَفاسِدِ مُتَفاوِتٌ أيْضًا، وفي الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ إثْباتُ نَوْعِ الكَبائِرِ وأكْبَرِ الكَبائِرِ.

ويَتَرَتَّبُ عَلى إثْباتِ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ أحْكامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنها المُخاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، ومِنها وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنها عِنْدَ اقْتِرافِها، ومِنها أنَّ تَرْكَ الكَبائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغائِرِ، ومِنها سَلْبُ العَدالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الكَبائِرِ، ومِنها نَقْضُ حُكْمِ القاضِي المُتَلَبِّسِ بِها، ومِنها جَوازُ هِجْرانِ المُتَجاهِرِ بِها، ومِنها تَغْيِيرُ المُنْكَرِ عَلى المُتَلَبِّسِ بِها. وتَتَرَتَّبُ عَلَيْها مَسائِلُ في أُصُولِ الدِّينِ: مِنها تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ عِنْدَ طائِفَةٍ مِنَ الخَوارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ المَعاصِي الكَبائِرِ والصَّغائِرِ، واعْتِبارُهُ مَنزِلَةً بَيْنَ الكُفْرِ والإسْلامِ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ، خِلافًا لِجُمْهُورِ عُلَماءِ الإسْلامِ. فَمِنَ العَجائِبِ أنْ يَقُولَ قائِلٌ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الكَبائِرَ عَنِ الصَّغائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زاجِرًا لِلنّاسِ عَنِ الإقْدامِ عَلى كُلِّ ذَنَبٍ، ونَظِيرُ ذَلِكَ إخْفاءُ الصَّلاةِ الوُسْطى في الصَّلَواتِ، ولَيْلَةِ القَدْرِ في لَيالِي رَمَضانَ، وساعَةِ الإجابَةِ في ساعاتِ الجُمُعَةِ، هَكَذا حَكاهُ الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ، وقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذا القائِلِ، وذُهُولُ الفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأنَّ الأشْياءَ الَّتِي نَظَرُوا بِها تَرْجِعُ إلى فَضائِلِ الأعْمالِ الَّتِي لا يَتَعَلَّقُ بِها تَكْلِيفٌ، فَإخْفاؤُها يُقْصَدُ مِنهُ التَّرْغِيبُ في تَوَخِّي مَظانِّها لِيُكْثِرَ النّاسُ مَن فِعْلِ الخَيْرِ، ولَكِنَّ إخْفاءَ الأمْرِ المُكَلَّفِ بِهِ إيقاعٌ في الضَّلالَةِ، فَلا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشّارِعِ.

والمَدْخَلُ بِفَتْحِ المِيمِ اسْمُ مَكانِ الدُّخُولِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا. والمَعْنى: نُدْخِلُكم مَكانًا كَرِيمًا، أوْ نُدْخِلُكم دُخُولًا كَرِيمًا. والكَرِيمُ هو النَّفِيسُ في نَوْعِهِ. فالمُرادُ إمّا الجَنَّةُ وإمّا الدُّخُولُ إلَيْها، والمُرادُ بِهِ الجَنَّةُ. والمُدْخَلُ بِضَمِّ المِيمِ كَذَلِكَ مَكانٌ أوْ مَصْدَرُ أدْخَلَ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: (مَدْخَلًا) بِفَتْحِ المِيمِ وقَرَأهُ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ بِضَمِّ المِيمِ.