﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابُونَ والنَّصارى مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ .

مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ دَقِيقٌ، ومَعْناها أدَقُّ وإعْرابُها تابِعٌ لِدِقَّةِ الأمْرَيْنِ.

فَمَوْقِعُها أدَقُّ مِن مَوْقِعِ نَظِيرَتِها المُتَقَدِّمَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ فَلَمْ يَكُنْ ما تَقَدَّمَ مِنَ البَيانِ في نَظِيرَتِها بِمُغْنٍ عَنْ بَيانِ ما يَخْتَصُّ بِمَوْقِعِ هَذِهِ. ومَعْناها يَزِيدُ دِقَّةً عَلى مَعْنى نَظِيرَتِها تَبَعًا لِدِقَّةِ مَوْقِعِ هَذِهِ.

وإعْرابُها يَتَعَقَّدُ إشْكالُهُ بِوُقُوعِ قَوْلِهِ (والصّابُونَ) بِحالَةِ رَفْعٍ بِالواوِ في حِينِ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى اسْمِ إنَّ في ظاهِرِ الكَلامِ.

صفحة ٢٦٨

فَحَقٌّ عَلَيْنا أنْ نَخُصَّها مِنَ البَيانِ بِما لَمْ يَسْبِقْ لَنا مِثْلُهُ في نَظِيرَتِها ولِنَبْدَأ بِمَوْقِعِها فَإنَّهُ مَعْقَدُ مَعْناها.

فاعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَلى تَقْدِيرِ سُؤالٍ يَخْطُرُ في نَفْسِ السّامِعِ لِقَوْلِهِ ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [المائدة: ٦٨] فَيَسْألُ سائِلٌ عَنْ حالِ مَنِ انْقَرَضُوا مِن أهْلِ الكِتابِ قَبْلَ مَجِيءِ الإسْلامِ: هَلْ هم عَلى شَيْءٍ أوْ لَيْسُوا عَلى شَيْءٍ، وهَلْ نَفَعَهُمُ اتِّباعُ دِينِهِمْ أيّامَئِذٍ؛ فَوَقَعَ قَوْلُهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا﴾ الآيَةَ جَوابًا لِهَذا السُّؤالِ المُقَدَّرِ.

والمُرادُ بِـ الَّذِينَ آمَنُوا المُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ أيِ المُسْلِمُونَ. وإنَّما المَقْصُودُ مِنِ الإخْبارِ الَّذِينَ هادُوا والصّابُونَ والنَّصارى، وأمّا التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فَلِاهْتِمامٍ بِهِمْ سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [المائدة: ٦٥] إلَخْ، فَبَعْدَ أنْ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الجُمْلَةُ بِما أُتْبِعَتْ بِهِ مِنَ الجُمَلِ عادَ الكَلامُ بِما يُفِيدُ مَعْنى تِلْكَ الجُمْلَةِ تَأْكِيدًا لِلْوَعْدِ، ووَصْلًا لِرَبْطِ الكَلامِ، ولِيُلْحَقَ بِأهْلِ الكِتابِ الصّابِئُونَ، ولِيَظْهَرَ الِاهْتِمامُ بِذِكْرِ حالِ المُسْلِمِينَ في جَنّاتِ النَّعِيمِ.

فالتَّصْدِيرُ بِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا في طالِعَةِ المَعْدُودِينَ إدْماجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالمُسْلِمِينَ في هَذِهِ المُناسَبَةِ، لِأنَّ المُسْلِمِينَ هُمُ المِثالُ الصّالِحُ في كَمالِ الإيمانِ والتَّحَرُّزِ عَنِ الغُرُورِ وعَنْ تَسَرُّبِ مَسارِبِ الشِّرْكِ إلى عَقائِدِهِمْ كَما بَشَّرَ بِذَلِكَ النَّبِيءُ ﷺ في خُطْبَةِ حَجَّةِ الوَداعِ بِقَوْلِهِ إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ مِن دُونِ اللَّهِ في أرْضِكم هَذِهِ. فَكانَ المُسْلِمُونَ، لِأنَّهُمُ الأوْحَدُونَ في الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والعَمَلِ الصّالِحِ، أوَّلِينَ في هَذا الفَضْلِ.

وأمّا مَعْنى الآيَةِ فافْتِتاحُها بِحَرْفِ إنَّ هُنا لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ لِعِرِوِّ المَقامِ عَنْ إرادَةِ رَدِّ إنْكارٍ أوْ تَرَدُّدٍ في الحُكْمِ أوْ تَنْزِيلِ غَيْرِ المُتَرَدِّدِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ.

صفحة ٢٦٩

وقَدْ تَحَيَّرَ النّاظِرُونَ في الإخْبارِ عَنْ جَمِيعِ المَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ ﴿مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، إذْ مِن جُمْلَةِ المَذْكُورِينَ المُؤْمِنُونَ، وهَلِ الإيمانُ إلّا بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ. وذَهَبَ النّاظِرُونَ في تَأْوِيلِهِ مَذاهِبَ: فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا مَن آمَنُوا بِألْسِنَتِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، وهُمُ المُنافِقُونَ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِمَن آمَنَ مَن دامَ عَلى إيمانِهِ ولَمْ يَرْتَدَّ. وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

والوَجْهُ عِنْدِيَ أنَّ المُرادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أصْحابُ الوَصْفِ المَعْرُوفِ بِالإيمانِ واشْتَهَرَ بِهِ المُسْلِمُونَ، ولا يَكُونُ إلّا بِالقَلْبِ واللِّسانِ لِأنَّ هَذا الكَلامَ وعْدٌ بِجَزاءِ اللَّهِ تَعالى، فَهو راجِعٌ إلى عِلْمِ اللَّهِ، واللَّهُ يَعْلَمُ المُؤْمِنَ الحَقَّ والمُتَظاهِرَ بِالإيمانِ نِفاقًا.

فالَّذِي أراهُ أنْ يُجْعَلَ خَبَرُ (إنَّ) مَحْذُوفًا. وحَذْفُ خَبَرِ إنَّ وارِدٌ في الكَلامِ الفَصِيحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، كَما ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ. وقَدْ دَلَّ عَلى الخَبَرِ ما ذُكِرَ بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٧٤] إلَخْ. ويَكُونُ قَوْلُهُ والَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، ولِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ ما عُطِفَ عَلَيْهِ، وهو (والصّابُونَ) . وهَذا أوْلى مِن جَعْلِ (والصّابُونَ) مَبْدَأ الجُمْلَةِ وتَقْدِيرِ خَبَرٍ لَهُ، أيْ والصّابُونَ كَذَلِكَ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الأكْثَرُونَ لِأنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلى اخْتِلافِ المُتَعاطِفاتِ في الحُكْمِ وتَشْتِيتِها مَعَ إمْكانِ التَّقَصِّي عَنْ ذَلِكَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ مَن آمَنَ بِاللَّهِ مُبْتَدَأً ثانِيًا، وتَكُونُ (مَن) مَوْصُولَةً، والرّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَها مَحْذُوفًا، أيْ مَن آمَنَ مِنهم، وجُمْلَةُ فَلَهم أجْرُهم خَبَرًا عَنْ (مَن) المَوْصُولَةِ، واقْتِرانُها بِالفاءِ لِأنَّ المَوْصُولَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ. وذَلِكَ كَثِيرٌ في الكَلامِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ [البروج: ١٠] الآيَةَ، ووُجُودُ الفاءِ فِيهِ يُعَيِّنُ كَوْنَهُ خَبَرًا عَنْ (مَن) المَوْصُولَةِ ولَيْسَ خَبَرُ إنَّ عَلى عَكْسِ قَوْلِ ضابِي بْنِ الحارِثِ:

ومَن يَكُ أمْسى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإنِّيَ وقَبّارٌ بِهَـا لَـغَـرِيبُ

فَإنَّ وُجُودَ لامِ الِابْتِداءِ في قَوْلِهِ لَغَرِيبُ عَيَّنَ أنَّهُ خَبَرُ إنَّ وتَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْ قَبّارٍ، فَلا يُنَظَّرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى (والصّابُونَ) .

صفحة ٢٧٠

ومَعْنى ﴿مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ مَن آمَنَ ودامَ، وهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا أدْيانَهم بِالإشْراكِ وإنْكارِ البَعْثِ؛ فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ اليَهُودِ خَلَطُوا أُمُورَ الشِّرْكِ بِأدْيانِهِمْ وعَبَدُوا الآلِهَةَ كَما تَقُولُ التَّوْراةُ. ومِنهم مَن جَعَلَ عُزَيْرًا ابْنًا لِلَّهِ، وإنَّ النَّصارى ألَّهُوا عِيسى وعَبَدُوهُ، والصّابِئَةُ عَبَدُوا الكَواكِبَ بَعْدَ أنْ كانُوا عَلى دِينٍ لَهُ كِتابٌ. وقَدْ مَضى بَيانُ دِينِهِمْ في تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِن سُورَةِ البَقَرَةِ.

ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ والنَّصارى قَدْ أحْدَثُوا في عَقِيدَتِهِمْ مِنَ الغُرُورِ في نَجاتِهِمْ مِن عَذابِ الآخِرَةِ بِقَوْلِهِمْ ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقَوْلِهِمْ ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، وقَوْلِ النَّصارى: إنَّ عِيسى قَدْ كَفَّرَ خَطايا البَشَرِ بِما تَحَمَّلَهُ مِن عَذابِ الطَّعْنِ والإهانَةِ والصَّلْبِ والقَتْلِ، فَصارُوا بِمَنزِلَةِ مَن لا يُؤْمِنُ بِاليَوْمِ الآخِرِ، لِأنَّهم عَطَّلُوا الجَزاءَ وهو الحِكْمَةُ الَّتِي قُدِّرَ البَعْثُ لِتَحْقِيقِها.

وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ (والصّابُونَ) مُبْتَدَأً وجَعَلُوهُ مُقَدَّمًا مِن تَأْخِيرٍ وقَدَّرُوا لَهُ خَبَرًا مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ خَبَرِ (إنَّ) عَلَيْهِ، وأنَّ أصْلَ النَّظْمِ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى لَهم أجْرُهم إلَخْ، والصّابُونَ كَذَلِكَ، جَعَلُوهُ كَقَوْلِ ضابِي بْنِ الحارِثِ:

فَإنِّيَ وقَيّارٌ بِها لَغَرِيبُ

وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ قَدَّرُوا تَقادِيرَ أُخْرى أنْهاها الألُوسِيُّ إلى خَمْسَةٍ.

والَّذِي سَلَكْناهُ أوْضَحُ وأجْرى عَلى أُسْلُوبِ النَّظْمِ وألْيَقُ بِمَعْنى هَذِهِ الآيَةِ وبَعْدُ فَمِمّا يَجِبُ أنْ يُوقَنَ بِهِ أنَّ هَذا اللَّفْظَ كَذَلِكَ نَزَلَ، وكَذَلِكَ نَطَقَ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ، وكَذَلِكَ تَلَقّاهُ المُسْلِمُونَ مِنهُ وقَرَءُوهُ، وكُتِبَ في المَصاحِفَ، وهم عَرَبٌ خُلَّصٌ، فَكانَ لَنا أصْلًا نَتَعَرَّفُ مِنهُ أُسْلُوبًا مِن أسالِيبِ اسْتِعْمالِ العَرَبِ في العَطْفِ وإنْ كانَ اسْتِعْمالًا غَيْرَ شائِعٍ لَكِنَّهُ مِنَ الفَصاحَةِ والإيجازِ بِمَكانٍ، وذَلِكَ أنَّ مِنَ الشّائِعِ في الكَلامِ أنَّهُ إذا أُتِيَ بِكَلامٍ مُؤَكَّدٍ بِحَرْفِ (إنَّ) وأُتِيَ بِاسْمِ إنَّ وخَبَرِها وأُرِيدَ أنْ يَعْطِفُوا عَلى اسْمِها مَعْطُوفًا هو

صفحة ٢٧١

غَرِيبٌ في ذَلِكَ الحُكْمِ جِيءَ بِالمَعْطُوفِ الغَرِيبِ مَرْفُوعًا لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلى أنَّهم أرادُوا عَطْفَ الجُمَلِ لا عَطْفَ المُفْرَداتِ، فَيُقَدِّرَ السّامِعُ خَبَرًا يُقَدِّرُهُ بِحَسَبِ سِياقِ الكَلامِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣]، أيْ ورَسُولُهُ كَذَلِكَ، فَإنَّ بَراءَتَهُ مِنهم في حالِ كَوْنِهِ مِن ذِي نَسَبِهِمْ وصِهْرِهِمْ أمْرٌ كالغَرِيبِ لِيَظْهَرَ مِنهُ أنَّ آصِرَةَ الدِّينِ أعْظَمُ مِن جَمِيعِ تِلْكَ الأواصِرِ، وكَذَلِكَ هَذا المَعْطُوفُ هُنا لَمّا كانَ الصّابُونُ أبْعَدَ عَنِ الهُدى مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى في حالِ الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الإسْلامِ، لِأنَّهُمُ التَزَمُوا عِبادَةَ الكَواكِبِ، وكانُوا مَعَ ذَلِكَ تَحِقُّ لَهُمُ النَّجاةُ إنْ آمَنُوا بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلُوا صالِحًا، كانَ الإتْيانُ بِلَفْظِهِمْ مَرْفُوعًا تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ. لَكِنْ كانَ الجَرْيُ عَلى الغالِبِ يَقْتَضِي أنْ لا يُؤْتى بِهَذا المَعْطُوفِ مَرْفُوعًا إلّا بَعْدَ أنْ تَسْتَوْفِيَ (إنَّ) خَبَرَها، إنَّما كانَ الغالِبُ في كَلامِ العَرَبِ أنْ يُؤْتى بِالِاسْمِ المَقْصُودِ بِهِ هَذا الحُكْمُ مُؤَخَّرًا، فَأمّا تَقْدِيمُهُ كَما في هَذِهِ الآيَةِ فَقَدْ يَتَراءى لِلنّاظِرِ أنَّهُ يُنافِي المَقْصِدَ الَّذِي لِأجْلِهِ خُولِفَ حُكْمُ إعْرابِهِ، ولَكِنَّ هَذا أيْضًا اسْتِعْمالٌ عَزِيزٌ، وهو أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مُقْتَضَيَيْ حالَيْنِ، وهُما الدَّلالَةُ عَلى غَرابَةِ المُخْبَرِ عَنْهُ في هَذا الحُكْمِ. والتَّنْبِيهُ عَلى تَعْجِيلِ الإعْلامِ بِهَذا الخَبَرِ فَإنَّ الصّابِئِينَ يَكادُونَ يَيْأسُونَ مِن هَذا الحُكْمِ أوْ يَيْأسُ مِنهم مَن يَسْمَعُ الحُكْمَ عَلى المُسْلِمِينَ واليَهُودِ. فَنَبَّهَ الكُلَّ عَلى أنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَظِيمٌ لا يَضِيقُ عَنْ شُمُولِهِمْ، فَهَذا مُوجِبُ التَّقْدِيمِ مَعَ الرَّفْعِ، ولَوْ لَمْ يُقَدَّمْ ما حَصَلَ ذَلِكَ الِاعْتِبارُ، كَما أنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْفَعْ لَصارَ مَعْطُوفًا عَلى اسْمِ (إنَّ) فَلَمْ يَكُنْ عَطْفُهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ.

وقَدْ جاءَ ذِكْرُ الصّابِينَ في سُورَةِ الحَجِّ مُقَدَّمًا عَلى النَّصارى ومَنصُوبًا، فَحَصَلَ هُناكَ مُقْتَضى حالٍ واحِدَةٍ وهو المُبادَرَةُ بِتَعْجِيلِ الإعْلامِ بِشُمُولِ فَصْلِ القَضاءِ بَيْنَهم وأنَّهم أمامَ عَدْلِ اللَّهِ يُساوُونَ غَيْرَهم.

ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ وعَمِلَ صالِحًا، وهو المَقْصُودُ بِالذّاتِ مِن رَبْطِ السَّلامَةِ مِنَ الخَوْفِ والحُزْنِ بِهِ، فَهو قَيْدٌ في المَذْكُورِينَ كُلِّهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ، وأوَّلُ الأعْمالِ الصّالِحَةِ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ والإيمانِ بِالقُرْآنِ، ثُمَّ يَأْتِي

صفحة ٢٧٢

امْتِثالُ الأوامِرِ واجْتِنابُ المَنهِيّاتِ كَما قالَ تَعالى ﴿وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ [البلد: ١٢] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] .