Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
اسْتِئْنافٌ قُصِدَ مِنهُ الِانْتِقالُ إلى إبْطالِ مَقالَةٍ أُخْرى مِن مَقالاتِ طَوائِفِ
صفحة ٢٨٢
النَّصارى، وهي مَقالَةُ المَلْكانِيَّةِ المُسَمَّيْنَ بِالجاثِلِيقِيَّةِ، وعَلَيْها مُعْظَمُ طَوائِفِ النَّصارى في جَمِيعِ الأرْضِ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ﴾ [النساء: ١٧١] مِن سُورَةِ النِّساءِ، وأنَّ قَوْلَهُ فِيها ﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ﴾ [النساء: ١٧١] يَجْمَعُ الرَّدَّ عَلى طَوائِفِ النَّصارى كُلِّهِمْ. والمُرادُ بـِ قالُوا اعْتَقَدُوا فَقالُوا، لِأنَّ شَأْنَ القَوْلِ أنْ يَكُونَ صادِرًا عَنِ اعْتِقادٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ.ومَعْنى قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أنَّ ما يَعْرِفُهُ النّاسُ أنَّهُ اللَّهُ هو مَجْمُوعُ ثَلاثَةِ أشْياءَ، وأنَّ المُسْتَحِقَّ لِلِاسْمِ هو أحَدُ تِلْكَ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ قَدْ عَبَّرُوا عَنْها بِالأقانِيمِ وهي: أُقْنُومُ الوُجُودِ وهو الذّاتُ المُسَمّى اللَّهُ وسَمَّوْهُ أيْضًا الأبَ، وأُقْنُومُ العِلْمِ وسَمَّوْهُ أيْضًا الِابْنَ، وهو الَّذِي اتَّحَدَ بِعِيسى وصارَ بِذَلِكَ عِيسى إلَهًا، وأُقْنُومُ الحَياةِ وسَمَّوْهُ الرُّوحَ القُدُسَ. وصارَ جُمْهُورُهم، ومِنهُمُ الرَّكُوسِيَّةُ طائِفَةٌ مِن نَصارى العَرَبِ، يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمّا اتَّحَدَ بِمَرْيَمَ حِينَ حَمْلِها بِالكَلِمَةِ تَألَّهَتْ مَرْيَمُ أيْضًا، ولِذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هي أُمُّ الكَلِمَةِ أمْ هي أُمُّ اللَّهِ.
فَقَوْلُهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ مَعْناهُ واحِدٌ مِن تِلْكَ الثَّلاثَةِ، لِأنَّ العَرَبَ تَصُوغُ مِنِ اسْمِ العَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ إلى عَشَرَةِ صِيغَةَ فاعِلٍ مُضافًا إلى اسْمِ العَدَدِ المُشْتَقِّ هو مِنهُ لِإرادَةِ أنَّهُ جُزْءٌ مِن ذَلِكَ العَدَدِ نَحْوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ، فَإنْ أرادُوا أنَّ المُشْتَقَّ لَهُ وزْنُ فاعِلٍ هو الَّذِي أكْمَلَ العَدَدَ أضافُوا وزْنَ فاعِلٍ إلى اسْمِ العَدَدِ الَّذِي هو أرْقى مِنهُ فَقالُوا: رابِعُ ثَلاثَةٍ، أيْ جاعِلُ الثَّلاثَةِ أرْبَعَةً.
وقَوْلُهُ ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ لِبَيانِ الحَقِّ في الِاعْتِقادِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاعْتِقادِ الباطِلِ.
ويَجُوزُ جَعْلُ الجُمْلَةِ حالًا مِن ضَمِيرِ قالُوا، أيْ قالُوا هَذا القَوْلَ في حالِ كَوْنِهِ مُخالِفًا لِلْواقِعِ، فَيَكُونُ كالتَّعْلِيلِ لِكُفْرِهِمْ في قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، ومَعْناهُ عَلى الوَجْهَيْنِ نَفْيٌ عَنِ الإلَهِ الحَقِّ أنْ يَكُونَ غَيْرَ واحِدٍ فَإنَّ (مِن) لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ فَصارَ النَّفْيُ بِـ (ما) المُقْتَرِنَةِ بِها مُساوِيًا لِلنَّفْيِ بِـ (لا) النّافِيَةِ لِلْجِنْسِ في الدَّلالَةِ عَلى نَفْيِ الجِنْسِ نَصًّا.
صفحة ٢٨٣
وعَدَلَ هُنا عَنِ النَّفْيِ بِلا التَّبْرِئَةِ فَلَمْ يَقُلْ ولا إلَهَ إلّا إلَهٌ واحِدٌ إلى قَوْلِهِ ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ اهْتِمامًا بِإبْرازِ حَرْفِ (مِن) الدّالِّ بَعْدَ النَّفْيِ عَلى تَحْقِيقِ النَّفْيِ؛ فَإنَّ النَّفْيَ بِحَرْفِ (لا) ما أفادَ نَفْيَ الجِنْسِ إلّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ (مِن)، فَلَمّا قُصِدَتْ زِيادَةُ الِاهْتِمامِ بِالنَّفْيِ هُنا جِيءَ بِحَرْفِ (ما) النّافِيَةِ وأظْهَرَ بَعْدَهُ حَرْفَ (مِن) . وهَذا مِمّا لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ.وقَوْلُهُ إلّا إلَهٌ واحِدٌ يُفِيدُ حَصْرَ وصْفِ الإلَهِيَّةِ في واحِدٍ فانْتَفى التَّثْلِيثُ المَحْكِيُّ عَنْهم. وأمّا تَعْيِينُ هَذا الواحِدِ مَن هو، فَلَيْسَ مَقْصُودًا تَعْيِينُهُ هُنا لِأنَّ القَصْدَ إبْطالُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَإذا بَطَلَ التَّثْلِيثُ وثَبَتَتِ الوَحْدانِيَّةُ تَعَيَّنَ أنَّ هَذا الواحِدَ هو اللَّهُ تَعالى لِأنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلى إلَهِيَّتِهِ، فَلَمّا بَطَلَتْ إلَهِيَّةُ غَيْرِهِ مَعَهُ تَمَحَّضَتِ الإلَهِيَّةُ لَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنا ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ واحِدٌ﴾ مُساوِيًا لِقَوْلِهِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ﴾، إلّا أنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هُنا وتَقَدَّمَ قَوْلُ المُبْطِلِينَ (إنَّهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) فاسْتُغْنِيَ بِإثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ عَنْ تَعْيِينِهِ. ولِهَذا صَرَّحَ بِتَعْيِينِ الإلَهِ الواحِدِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما مِن إلَهٍ إلّا إلَهٌ﴾ إذِ المَقامُ اقْتَضى تَعْيِينَ انْحِصارِ الإلَهِيَّةِ في اللَّهِ تَعالى دُونَ عِيسى ولَمْ يَجْرِ فِيهِ ذِكْرٌ لِتَعَدُّدِ الآلِهَةِ.
وقَوْلُهُ ﴿وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾، أيْ لَقَدْ كَفَرُوا كُفْرًا إنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ أصابَهم عَذابٌ ألِيمٌ. ومَعْنى عَمّا يَقُولُونَ أيْ عَنْ قَوْلِهِمُ المَذْكُورِ آنِفًا وهو إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وقَدْ جاءَ بِالمُضارِعِ لِأنَّهُ المُناسِبُ لِلِانْتِهاءِ إذِ الِانْتِهاءُ إنَّما يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَمِرٍّ كَما ناسَبَ قَوْلُهُ قالُوا قَوْلَهُ لَقَدْ كَفَرَ. لِأنَّ الكُفْرَ حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ ابْتِداءً مِنَ الزَّمَنِ الماضِي.
ومَعْنى عَمّا يَقُولُونَ عَمّا يَعْتَقِدُونَ، لِأنَّهم لَوِ انْتَهَوْا عَنِ القَوْلِ بِاللِّسانِ وأضْمَرُوا اعْتِقادَهُ لَما نَفَعَهم ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ شَأْنُ القَوْلِ لا يَصْدُرُ إلّا عَنِ اعْتِقادٍ كانَ صالِحًا لِأنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنِ الِاعْتِقادِ مَعَ مَعْناهُ الصَّرِيحِ.
وأكَّدَ الوَعِيدَ بِلامِ القَسَمِ في قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ رَدًّا لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهم لا تَمَسُّهُمُ النّارُ، لِأنَّ صَلْبَ عِيسى كانَ كَفّارَةً عَنْ خَطايا بَنِي آدَمَ.
صفحة ٢٨٤
والمَسُّ مَجازٌ في الإصابَةِ، لِأنَّ حَقِيقَةَ المَسِّ وضْعُ اليَدِ عَلى الجِسْمِ، فاسْتُعْمِلَ في الإصابَةِ بِجامِعِ الِاتِّصالِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ العَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام: ٤٩]، فَهو دالٌّ عَلى مُطْلَقِ الإصابَةِ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشِدَّةٍ أوْ ضَعْفٍ، وإنَّما يَرْجِعُ في الشِّدَّةِ أوِ الضَّعْفِ إلى القَرِينَةِ، مِثْلَ ”ألِيمٌ“ هُنا، ومِثْلَ قَوْلِهِ ﴿بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام: ٤٩] في الآيَةِ الأُخْرى، وقالَ يَزِيدُ بْنُ الحَكَمِ الكِلابِيُّ مِن شُعَراءِ الحَماسَةِ:مَسِسْنا مِنَ الآباءِ شَيْئًا وكُـلُّـنَـا إلى حَسَبٍ في قَوْمِهِ غَيْرِ واضِعٍ
أيْ تَتَبَّعْنا أُصُولَ آبائِنا.والمُرادُ بِـ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنُ المُرادِ بِـ ﴿الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهم بِضَمِيرِهِمْ إلى الصِّلَةِ المُقَرَّرَةِ لِمَعْنى كُفْرِهِمُ المَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إلَخْ، لِقَصْدِ تَكْرِيرِ تَسْجِيلِ كُفْرِهِمْ ولِيَكُونَ اسْمُ المَوْصُولِ مُومِئًا إلى سَبَبِ الحُكْمِ المُخْبَرِ بِهِ عَنْهُ. وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ مِنهم لِلَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ مِنهُ الِاحْتِراسُ عَنْ أنْ يَتَوَهَّمَ السّامِعُ أنَّ هَذا وعِيدٌ لِكُفّارٍ آخَرِينَ.
ولَمّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ أعْقَبَ الوَعِيدَ بِالتَّرْغِيبِ في الهِدايَةِ فَقالَ أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ. فالتَّوْبَةُ هي الإقْلاعُ عَمّا هو عَلَيْهِ في المُسْتَقْبَلِ والرُّجُوعُ إلى الِاعْتِقادِ الحَقِّ. والِاسْتِغْفارُ طَلَبُ مَغْفِرَةِ ما سَلَفَ مِنهم في الماضِي والنَّدَمُ عَمّا فَرَطَ مِنهم مِن سُوءِ الِاعْتِقادِ.
وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ بِثَناءٍ عَلى اللَّهِ بِأنَّهُ يَغْفِرُ لِمَن تابَ واسْتَغْفَرَ ما سَلَفَ مِنهُ، لِأنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ مِن أمْثِلَةِ المُبالَغَةِ يَدُلّانِ عَلى شِدَّةِ الغُفْرانِ وشِدَّةِ الرَّحْمَةِ، فَهو وعْدٌ بِأنَّهم إنْ تابُوا واسْتَغْفَرُوهُ رَفَعَ عَنْهُمُ العَذابَ بِرَحْمَتِهِ وصَفَحَ عَمّا سَلَفَ مِنهم بِغُفْرانِهِ.