Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ١٧٨
﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ﴾ ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهم فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم وهُدًى ورَحْمَةٌ فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ﴾جُمْلَةُ: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] . المَعْنى: ﴿آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] وأنْزَلْنا هَذا الكِتابَ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] . . . إلَخْ.
وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِاسْمِ الإشارَةِ، وبِناءُ الفِعْلِ عَلَيْهِ، وجَعْلُ الكِتابِ الَّذِي حَقُّهُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولَ ”أنْزَلْناهُ“، مُبْتَدَأً، كُلُّ ذَلِكَ لِلِاهْتِمامِ بِالكِتابِ والتَّنْوِيهِ بِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٢] في هَذِهِ السُّورَةِ.
وتَفْرِيعُ الأمْرِ بِاتِّباعِهِ عَلى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ، وكَوْنِهِ مُبارَكًا، ظاهِرٌ؛ لِأنَّ ما كانَ كَذَلِكَ لا يَتَرَدَّدُ أحَدٌ في اتِّباعِهِ.
والِاتِّباعُ أُطْلِقَ عَلى العَمَلِ بِما فِيهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ. وقَدْ مَضى الكَلامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠] وقَوْلِهِ ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١٠٦] في هَذِهِ السُّورَةِ.
صفحة ١٧٩
والخِطابُ في قَوْلِهِ: فاتَّبِعُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ .وجُمْلَةُ: أنْزَلْناهُ في مَحَلِّ الصِّفَةِ لِـ كِتابٌ، ومُبارَكٌ صِفَةٌ ثانِيَةٌ، وهُما المَقْصِدُ مِنِ الإخْبارِ، لِأنَّ كَوْنَهُ كِتابًا لا مِرْيَةَ فِيهِ، وإنَّما امْتَرَوْا في كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ وفي كَوْنِهِ مُبارَكًا. وحَسُنَ عَطْفُ مُبارَكٌ عَلى: أنْزَلْناهُ لِأنَّ اسْمَ المَفْعُولِ - لِاشْتِقاقِهِ - هو في قُوَّةِ الفِعْلِ، ومَعْنى اتَّقُوا كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوى وهي الأخْذُ بِدِينِ الحَقِّ والعَمَلُ بِهِ وفي قَوْلِهِ ﴿لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ وعْدٌ عَلى اتِّباعِهِ وتَعْرِيضٌ بِالوَعِيدِ بِعَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ إنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿أنْ تَقُولُوا﴾ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ أنْزَلْناهُ عَلى تَقْدِيرِ لامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلى ما هو مَعْرُوفٌ مِن حَذْفِها مَعَ أنْ. والتَّقْدِيرُ: لِأنْ تَقُولُوا، أيْ لِقَوْلِكم ذَلِكَ في المُسْتَقْبَلِ، أيْ لِمُلاحَظَةِ قَوْلِكم وتَوَقُّعِ وُقُوعِهِ، فالقَوْلُ باعِثٌ عَلى إنْزالِ الكِتابِ.
والمَقامُ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ كانَ باعِثًا عَلى إنْزالِ هَذا الكِتابِ، والعِلَّةُ الباعِثَةُ عَلى شَيْءٍ لا يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ عِلَّةً غائِيَّةً، فَهَذا المَعْنى في اللّامِ عَكْسُ مَعْنى لامِ العاقِبَةِ، ويَئُولُ المَعْنى إلى أنَّ إنْزالَ الكِتابِ فِيهِ حِكَمٌ مِنها حِكْمَةُ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ بِأنَّهم لَمْ يَنْزِلْ إلَيْهِمْ كِتابٌ، أوْ كَراهِيَةُ أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، أوْ لِتَجَنُّبِ أنْ يَقُولُوهُ، وذَلِكَ بِمَعُونَةِ المَقامِ إيثارًا لِلْإيجازِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ مُضافٌ مِثْلَ: كَراهِيَةَ أوْ تَجَنُّبَ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ جَرى نُحاةُ البَصْرَةِ. وذَهَبَ نُحاةُ الكُوفَةِ إلى أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ لا النّافِيَةِ، فالتَّقْدِيرُ عِنْدَهم: أنْ لا تَقُولُوا، والمَآلُ واحِدٌ ونَظائِرُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: ”﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]“ وقَوْلِهِ ”﴿واتَّبِعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ بَغْتَةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: ٥٥] ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]“
صفحة ١٨٠
وقَوْلِهِ ”﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]“ أيْ لِتَجَنُّبِ مَيْدِها بِكم، وقَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:فَعَجَّلْنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا
وهَذا القَوْلُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ عَنْهم مِن قَبْلُ، فَقَدْ جاءَ في آيَةِ سُورَةِ القَصَصِ: ”﴿فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ مِن عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى﴾ [القصص: ٤٨]“، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا ثُمَّ قالُوهُ مِن بَعْدُ، وأيًّا ما كانَ فَإنَّهُ مُتَوَقَّعٌ أنْ يُكَرِّرُوهُ ويُعِيدُوهُ قَوْلًا مُوافِقًا لِلْحالِ في نَفْسِ الأمْرِ، فَكانَ مُتَوَقَّعًا صُدُورُهُ عِنْدَما يَتَوَّجَهُ المَلامُ عَلَيْهِمْ في انْحِطاطِهِمْ عَنْ مُجاوَرِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى مِن حَيْثُ اسْتِكْمالِ الفَضائِلِ وحُسْنِ السَّيْرِ وكَمالِ التَّدَيُّنِ، وعِنْدَ سُؤالِهِمْ في الآخِرَةِ عَنِ اتِّباعِ ضَلالِهِمْ، وعِنْدَما يُشاهِدُونَ ما يَنالُهُ أهْلُ المِلَلِ الصّالِحَةِ مِنَ النَّعِيمِ ورَفْعِ الدَّرَجاتِ في ثَوابِ اللَّهِ فَيَتَطَلَّعُونَ إلى حَظٍّ مِن ذَلِكَ ويَتَعَلَّلُونَ بِأنَّهم حُرِمُوا الإرْشادَ في الدُّنْيا.وقَدْ كانَ اليَهُودُ والنَّصارى في بِلادِ العَرَبِ عَلى حالَةٍ أكْمَلَ مِن أحْوالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، ألا تَرى إلى قَوْلِ النّابِغَةِ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمانِ بْنِ الحارِثِ، وكانُوا نَصارى:
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلَهِ ودِينُهم قَوِيمٌ ∗∗∗ فَما يَرْجُونَ غَيْرَ العَواقِبِ
ولا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ∗∗∗ ولا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازِبٍ
والطّائِفَةُ: الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ الكَثِيرَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢] في سُورَةِ النِّساءِ، والمُرادُ بِالطّائِفَتَيْنِ هُنا اليَهُودُ والنَّصارى.والكِتابُ مُرادٌ بِهِ الجِنْسُ المُنْحَصِرُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والزَّبُورِ. ومَعْنى إنْزالُ الكِتابِ عَلَيْهِمْ أنَّهم خُوطِبُوا بِالكُتُبِ السَّماوِيَّةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلى
صفحة ١٨١
أنْبِيائِهِمْ فَلَمْ يَكُنِ العَرَبُ مُخاطَبِينَ بِما أُنْزِلَ عَلى غَيْرِهِمْ، فَهَذا تَعَلُّلٌ أوَّلُ مِنهم، وثَمَّةُ اعْتِلالٌ آخَرُ عَنِ الزَّهادَةِ في التَّخَلُّقِ بِالفَضائِلِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ: وهو قَوْلُهم: ﴿وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ﴾، أيْ وأنّا كُنّا غافِلِينَ عَنِ اتِّباعِ رُشْدِهِمْ لِأنّا لَمْ نَتَعَلَّمْ، فالدِّراسَةُ مُرادٌ بِها التَّعْلِيمُ.والدِّراسَةُ: القِراءَةُ بِمُعاوَدَةٍ لِلْحِفْظِ أوْ لِلتَّأمُّلِ، فَلَيْسَ سَرْدُ الكِتابِ بِدِراسَةٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى: ”﴿ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: ١٠٥]“ في هَذِهِ السُّورَةِ، وتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: ٧٩] مِن سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والغَفْلَةُ: السَّهْوُ الحاصِلُ مِن عَدَمِ التَّفَطُّنِ، أيْ لَمْ نَهْتَمَّ بِما احْتَوَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهم فَنَقْتَدِي بِهَدْيِها، فَكانَ مَجِيءُ القُرْآنِ مُنَبِّهًا لَهم لِلْهَدْيِ الكامِلِ ومُغْنِيًا عَنْ دِراسَةِ كُتُبِهِمْ.
وقَوْلُهُ: ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ﴾، تَدَرُّجٌ في الِاعْتِلالِ جاءَ عَلى ما تُكِنَّهُ نُفُوسُ العَرَبِ مِن شُفُوفِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ عَلى بَقِيَّةِ الأُمَمِ، وتَطَلُّعِهِمْ إلى مَعالِي الأُمُورِ، وإدْلالِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ وفَصاحَةِ ألْسِنَتِهِمْ وحِدَّةِ أذْهانِهِمْ وسُرْعَةِ تَلَقِّيهِمْ، وهم أخْلِقاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ.
وفِي الإعْرابِ عَنْ هَذا الِاعْتِلالِ مِنهم تَلْقِينٌ لَهم، وإيقاظٌ لِإفْهامِهِمْ أنْ يَغْتَبِطُوا بِالقُرْآنِ، ويَفْهَمُوا ما يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الفَضْلِ والشَّرَفِ بَيْنَ الأُمَمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكم كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكم أفَلا تَعْقِلُونَ. وقَدْ كانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا القُرْآنَ أهْدى مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى بِبَوْنٍ بَعِيدِ الدَّرَجاتِ.
ولَقَدْ تَهَيَّأ المَقامُ بَعْدَ هَذا التَّنْبِيهِ العَجِيبِ لِفاءِ الفَصِيحَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ وتَقْدِيرُها: فَإذا كُنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ ويَهْجِسُ في نُفُوسِكم فَقَدْ جاءَكم بَيانٌ مِن رَبِّكم يَعْنِي القُرْآنَ، يَدْفَعُ عَنْكم ما تَسْتَشْعِرُونَ مِنَ الِانْحِطاطِ عَنْ أهْلِ الكِتابِ.
صفحة ١٨٢
والبَيِّنَةُ ما بِهِ البَيانُ وظُهُورُ الحَقِّ. فالقُرْآنُ بَيِّنَةٌ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ لِإعْجازِهِ بُلَغاءَ العَرَبِ، وهو هَدْيٌ بِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنِ الإرْشادِ إلى طَرِيقِ الخَيْرِ، وهو رَحْمَةٌ بِما جاءَ بِهِ مِن شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ لا حَرَجَ فِيها، فَهي مُقِيمَةٌ لِصَلاحِ الأُمَّةِ مَعَ التَّيْسِيرِ. وهَذا مِن أعْجَبِ التَّشْرِيعِ وهو أدَلُّ عَلى أنَّهُ مِن أمْرِ العَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ.وتَفَرَّعَ عَنْ هَذا الإعْذارِ لَهُمُ الإخْبارُ عَنْهم بِأنَّهم لا أظْلَمَ مِنهم، لِأنَّهم كَذَّبُوا وأعْرَضُوا. فالفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن أظْلَمُ﴾ لِلتَّفْرِيعِ. والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ، أيْ لا أحَدَ أظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.
و”مِن“ في ﴿مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ مَوْصُولَةٌ وما صِدْقُها المُخاطَبُونَ مِن قَوْلِهِ: أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ.
والظُّلْمُ هُنا يَشْمَلُ ظُلْمَ نُفُوسِهِمْ، إذْ زَجُّوا بِها إلى العَذابِ في الآخِرَةِ وخُسْرانِ الدُّنْيا، وظُلْمَ الرَّسُولِ ﷺ إذْ كَذَّبُوهُ، وما هو بِأهْلِ التَّكْذِيبِ، وظُلْمَ اللَّهِ إذْ كَذَّبُوا بِآياتِهِ وأنْكَرُوا نِعْمَتَهُ، وظَلَمُوا النّاسَ بِصَدِّهِمْ عَنِ الإسْلامِ بِالقَوْلِ والفِعْلِ.
وقَدْ جِيءَ بِاسْمِ المَوْصُولِ لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلى تَعْلِيلِ الحُكْمِ ووَجْهِ بِناءِ الخَبَرِ، لِأنَّ مَن ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ تِلْكَ الصِّلَةِ كانَ حَقِيقًا بِأنَّهُ لا أظْلَمَ مِنهُ.
ومَعْنى: ”صَدَفَ“ أعْرَضَ هو، ويُطْلَقُ بِمَعْنى صَرَفَ غَيْرَهُ كَما في القامُوسِ. وأصْلُهُ التَّعْدِيَةُ إلى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وإلى الثّانِي بِـ ”عَنْ“ يُقالُ: صَدَفْتُ فُلانًا عَنْ كَذا، كَما يُقالُ: صَرَفْتُهُ، وقَدْ شاعَ تَنْزِيلُهُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ حَتّى غَلَبَ عَدَمُ ظُهُورِ المَفْعُولِ بِهِ، يُقالُ: صَدَفَ عَنْ كَذا بِمَعْنى أعَرَضَ وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ”﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هم يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦]“ في هَذِهِ السُّورَةِ، وقَدَّرَهُ في الكَشّافِ هُنا مُتَعَدِّيًا لِأنَّهُ أنْسَبُ بِكَوْنِهِمِ أظْلَمَ النّاسِ تَكْثِيرًا في وُجُوهِ اعْتِدائِهِمْ، ولَمْ أرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ نَظَرًا
صفحة ١٨٣
لِقَوْلِهِ تَعالى: ”﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذابِ﴾“ إذْ يُناسِبُهُ مَعْنى المُتَعَدِّي لِأنَّ الجَزاءَ عَلى إعْراضِهِمْ وعَلى صَدِّهِمُ النّاسَ عَنِ الآياتِ، فَإنَّ تَكْذِيبَهم بِالآياتِ يَتَضَمَّنُ إعْراضَهم عَنْها فَناسَبَ أنْ يَكُونَ صَدْفُهم هو صَرْفُهُمُ النّاسَ.و”سُوءَ العَذابِ“ مِن إضافَةِ الصِّفَةِ إلى المَوْصُوفِ، وسُوءُهُ أشَدُّهُ وأقْواهُ، وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ. فَقَوْلُهُ: ”﴿عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ [النحل: ٨٨]“ هو مُضاعَفَةُ العَذابِ، أيْ شِدَّتُهُ. ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ عَذابُ الدُّنْيا بِالقَتْلِ والذُّلِّ، وعَذابُ الآخِرَةِ، وإنَّما كانَ ذَلِكَ جَزاءَهم لِأنَّهم لَمْ يُكَذِّبُوا تَكْذِيبًا عَنْ دَعْوَةٍ مُجَرَّدَةٍ، بَلْ كَذَّبُوا بَعْدَ أنْ جاءَتْهُمُ الآياتُ البَيِّناتُ. وما مَصْدَرِيَّةٌ: أيْ بِصَدْفِهِمْ وإعْراضِهِمْ عَنِ الآياتِ إعْراضًا مُسْتَمِرًّا لَمْ يَدْعُوا راغِبَهُ فَـ كانَ " هُنا مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِمْرارِ مِثْلُ: وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.