صفحة ١٦

﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ﴾ ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنا الضَّرّاءُ والسَّرّاءُ فَأخَذْناهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾

عَطَفَتِ الواوُ جُمْلَةَ ما أرْسَلْنا عَلى جُمْلَةِ ﴿وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا﴾ [الأعراف: ٨٥] عَطْفَ الأعَمِّ عَلى الأخَصِّ؛ لِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ القَصَصِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٥٩] كُلُّهُ القَصْدُ مِنهُ العِبْرَةُ بِالأُمَمِ الخالِيَةِ ومَوْعِظَةٌ لِكُفّارِ العَرَبِ فَلَمّا تَلا عَلَيْهِمْ قَصَصَ خَمْسِ أُمَمٍ جاءَ الآنَ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ سائِرَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ عَلى طَرِيقَةِ قِياسِ التَّمْثِيلِ، أوْ قِياسِ الِاسْتِقْراءِ النّاقِصِ، وهو أشْهَرُ قِياسٍ يُسْلَكُ في المَقاماتِ الخِطابِيَّةِ، وهَذِهِ الجُمَلُ إلى قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى كالمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ القَصَصِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى مَوْقِعِ المَوْعِظَةِ، وذَلِكَ هو المَقْصُودُ مِن تِلْكَ القَصَصِ، فَهو اعْتِراضٌ بِبَيانِ المَقْصُودِ مِنَ الكَلامِ وهَذا كَثِيرُ الوُقُوعِ في اعْتِراضِ الكَلامِ.

وعُدِيَّ أرْسَلْنا بِـ في دُونَ (إلى) لِأنَّ المُرادَ بِالقَرْيَةِ حَقِيقَتُها، وهي لا يُرْسَلُ إلَيْها وإنَّما يُرْسَلُ فِيها إلى أهْلِها، فالتَّقْدِيرُ: وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلى أهْلِها إلّا أخَذْنا أهْلَها فَهو كَقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا﴾ [القصص: ٥٩] ولا يَجْرِي في هَذا مِنَ المَعْنى ما يَجْرِي في قَوْلِهِ - تَعالى - الآتِي قَرِيبًا: ﴿فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٥٣] إذْ لا داعِيَ إلَيْهِ هُنا.

و(مِن) مَزِيدٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلى العُمُومِ المُسْتَفادِ مِن وُقُوعِ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ، وتَخْصِيصِ القُرى بِإرْسالِ الرُّسُلِ فِيها دُونَ البَوادِي كَما أشارَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ وغَيْرُها مِن آيِ القُرْآنِ، وشَهِدَ بِهِ تارِيخُ الأدْيانِ، يُنْبِئُ أنَّ مُرادَ اللَّهِ - تَعالى - مِن إرْسالِ الرُّسُلِ هو بَثُّ الصَّلاحِ لِأصْحابِ الحَضارَةِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إلَيْها الخَلَلُ بِسَبَبِ اجْتِماعِ الأصْنافِ المُخْتَلِفَةِ، وأنَّ أهْلَ البَوادِي لا يَخْلُونَ عَنِ الِانْحِيازِ إلى القُرى والإيواءِ في حاجاتِهِمُ المَدَنِيَّةِ إلى القُرى القَرِيبَةِ. فَأمّا مَجِيءُ نَبِيءٍ غَيْرِ رَسُولٍ لِأهْلِ

صفحة ١٧

البَوادِي فَقَدْ جاءَ خالِدُ بْنُ سِنانٍ نَبِيًّا في بَنِي عَبْسٍ، وأمّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوانَ نَبِيءُ أهْلِ الرَّسِّ فالأظْهَرُ أنَّهُ رَسُولٌ لِأنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أهْلَ الرَّسِّ في عِدادِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ظَهَرَ بِقَرْيَةِ الرَّسِّ الَّتِي تُسَمّى أيْضًا ”فَتْحَ“ بِالمُهْمَلَةِ أوْ ”فَتْخَ“ بِالمُعْجَمَةِ أوْ ”فَيْجَ“ بِتَحْتِيَّةٍ وجِيمٍ، أوْ ”فَلْجَ“ بِلامٍ وجِيمٍ مِنَ اليَمامَةِ.

والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أحْوالٍ، أيْ ما أرْسَلْنا نَبِيًّا في قَرْيَةٍ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ أنَّنا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ، وقَدْ وقَعَ في الكَلامِ إيجازُ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يَضَّرَّعُوا قَبْلَ الأخْذِ بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ. فالتَّقْدِيرُ: وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلّا كَذَّبَهُ أهْلُ القَرْيَةِ فَخَوَّفْناهم لَعَلَّهم يَذِلُّونَ لِلَّهِ ويَتْرُكُونَ العِنادَ إلَخْ. . .

والأخْذُ: هُنا مَجازٌ في التَّناوُلِ والإصابَةِ بِالمَكْرُوهِ الَّذِي لا يُسْتَطاعُ دَفْعُهُ، وهو مَعْنى الغَلَبَةِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأخَذْناهم بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [الأنعام: ٤٢] في سُورَةِ الأنْعامِ.

وقَوْلُهُ ﴿بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ﴾ تَقَدَّمَ ما يُفَسِّرُها في قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأخَذْناهم بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢] في سُورَةِ الأنْعامِ. ويُفَسَّرُ بَعْضُها أيْضًا في قَوْلِهِ ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

واسْتَغْنَتْ جُمْلَةُ الحالِ الماضَوِيَّةُ عَلى الواوِ وقَدْ بِحَرْفِ الِاسْتِثْناءِ، فَلا يَجْتَمِعُ مَعَ قَدْ إلّا نادِرًا، أيْ: ابْتَدَأْناهم بِالتَّخْوِيفِ والمَصائِبِ لِتَفُلَّ مِن حِدَّتِهِمْ وتَصْرِفَ تَأمُّلَهم إلى تَطَلُّبِ أسْبابِ المَصائِبِ فَيَعْلَمُوا أنَّها مِن غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَتُوبُوا.

والتَّبْدِيلُ: التَّعْوِيضُ، فَحَقُّهُ أنْ يَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ الثّانِي بِالباءِ المُفِيدَةِ مَعْنى البَدَلِيَّةِ ويَكُونُ ذَلِكَ المَفْعُولُ الثّانِي المَدْخُولُ لِلْباءِ هو المَتْرُوكَ، والمَفْعُولُ الأوَّلُ هو المَأْخُوذَ، كَما في قَوْلِهِ - تَعالى - قالَ ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٦١] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ ﴿ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: ٢] في سُورَةِ النِّساءِ، لِذَلِكَ انْتَصَبَ الحَسَنَةُ هُنا لِأنَّها المَأْخُوذَةُ لَهم بَعْدَ السَّيِّئَةِ فَهي المَفْعُولُ الأوَّلُ والسَّيِّئَةُ هي المَتْرُوكَةُ، وعَدَلَ عَنْ جَرِّ السَّيِّئَةِ بِالباءِ إلى لَفْظٍ يُؤَدِّي مُؤَدّى باءِ البَدَلِيَّةِ وهو

صفحة ١٨

لَفْظُ (مَكانَ) المُسْتَعْمَلُ ظَرْفًا مَجازًا عَنِ الخَلَفِيَّةِ، يُقالُ خُذْ هَذا مَكانَ ذَلِكَ، أيْ: خُذْهُ خَلَفًا عَنْ ذَلِكَ لِأنَّ الخَلَفَ يَحُلُّ في مَكانِ المَخْلُوفِ عَنْهُ. ومِن هَذا القَبِيلِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:

وبُدِلْتُ قُرْحًا دامِيًا بَعْدَ نِعْمَةٍ

فَجَعَلَ ”بَعْدَ“ عِوَضًا عَنْ باءِ البَدَلِيَّةِ.

فَقَوْلُهُ (مَكانَ) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ مَجازًا، أيْ: بَدَّلْناهم حَسَنَةً في مَكانِ السَّيِّئَةِ، والحَسَنَةُ اسْمٌ اعْتُبِرَ مُؤَنَّثًا لِتَأْوِيلِهِ بِالحالَةِ والحادِثَةِ وكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ فَهُما في الأصْلِ صِفَتانِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ كَثُرَ حَذْفُ المَوْصُوفِ لِقِلَّةِ جَدْوى ذِكْرِهِ فَصارَتِ الصِّفَتانِ كالِاسْمَيْنِ، ولِذَلِكَ عُبِّرَ عَنِ الحَسَنَةِ في بَعْضِ الآياتِ بِما يُتَلَمَّحُ مِنهُ مَعْنى وصْفِيَّتِها نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [فصلت: ٣٤] أيِ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالحَسَنَةِ، فَلَمّا جاءَ بِطَرِيقَةِ المَوْصُولِيَّةِ والصِّلَةِ بِأفْعَلِ التَّفْضِيلِ تُلُمِّحَ مَعْنى الوَصْفِيَّةِ فِيهِما، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: ٩٦] . ومِثْلُهُما في هَذا: المُصِيبَةُ، كَما في قَوْلِهِ - تَعالى - في سُورَةِ (بَراءَةَ): ﴿إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أخَذْنا أمْرَنا مِن قَبْلُ﴾ [التوبة: ٥٠] أيْ: بَدَّلْناهم حالَةً حَسَنَةً بِحالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ وهي حالَةُ البَأْساءِ والضَّرّاءِ.

فالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، وهو مُشْعِرٌ بِأنَّهم أُعْطُوا حالَةً حَسَنَةً بَطِيئَةَ النَّفْعِ لا تَبْلُغُ مَبْلَغَ البَرَكَةِ.

وحَتّى غايَةٌ لِما يَتَضَمَّنُهُ بَدَّلْنا مِنَ اسْتِمْرارِ ذَلِكَ وهي ابْتِدائِيَّةٌ، والجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَها لا مَحَلَّ لَها.

(وعَفَوْا) كَثُرُوا. يُقالُ: عَفا النَّباتُ، إذا كَثُرَ ونَما، وعَطَفَ، (وقالُوا) عَلى (عَفَوْا) فَهو مِن بَقِيَّةِ الغايَةِ.

والسَّرّاءُ: النِّعْمَةُ ورَخاءُ العَيْشِ، وهي ضِدُّ الضَّرّاءِ.

والمَعْنى أنّا نَأْخُذُهم بِما يُغَيِّرُ حالَهُمُ الَّتِي كانُوا فِيها مِن رَخاءٍ وصِحَّةٍ عَسى أنْ يَعْلَمُوا أنَّ سَلْبَ النِّعْمَةِ عَنْهم أمارَةٌ عَلى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِن جَرّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهم فَلا يَهْتَدُونَ، ثُمَّ نَرُدُّهم إلى حالَتِهِمُ الأُولى إمْهالًا لَهم واسْتِدْراجًا فَيَزْدادُونَ ضَلالًا، فَإذا رَأوْا ذَلِكَ تَعَلَّلُوا لِما أصابَهم مِنَ البُؤْسِ والضُّرِّ بِأنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ إنَّما هو عارِضٌ مِن عَوارِضِ

صفحة ١٩

الزَّمانِ وأنَّهُ قَدْ أصابَ أسْلافَهم مِن قَبْلِهِمْ ولَمْ يَجِئْهم رُسُلٌ.

وهَذِهِ عادَةُ اللَّهِ - تَعالى - في تَنْبِيهِ عِبادِهِ، فَإنَّهُ يُحِبُّ مِنهُمُ التَّوَسُّمَ في الأشْياءِ والِاسْتِدْلالَ بِالعَقْلِ والنَّظَرَ بِالمُسَبَّباتِ عَلى الأسْبابِ كَما قالَ - تَعالى - ﴿أوَلا يَرَوْنَ أنَّهم يُفْتَنُونَ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هم يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٦] لِأنَّ اللَّهَ لَمّا وهَبَ الإنْسانَ العَقْلَ فَقَدْ أحَبَّ مِنهُ أنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيما يَبْلُغُ بِهِ الكَمالَ ويَقِيهِ الضَّلالَ.

وظاهِرُ الآيَةِ: أنَّ هَذا القَوْلَ الصّادِرَ بِألْسِنَتِهِمْ وهو يَكُونُ دائِرًا فِيما بَيْنَ بَعْضِهِمْ وبَعْضِ في مُجادَلَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ حِينَما يَعِظُونَهم بِما حَلَّ بِهِمْ ويَدْعُونَهم إلى التَّوْبَةِ والإيمانِ لِيُكْشَفَ عَنْهُمُ الضُّرُّ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا القَوْلُ أيْضًا: يَجِيشُ في نُفُوسِهِمْ لِيَدْفَعُوا بِذَلِكَ ما يَخْطُرُ بِبالِهِمْ مِن تَوَقُّعِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضُّرُّ عِقابًا مِنَ اللَّهِ - تَعالى - وإذْ قَدْ كانَ مَحْكِيًّا عَنْ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ كانَتْ لَهُ أحْوالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ مَيادِينِ النُّفُوسِ والأحْوالِ.

وحاصِلُ ما دَفَعُوا بِهِ دَلالَةَ الضَّرّاءِ عَلى غَضَبِ اللَّهِ أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ حَلَّ بِآبائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُهم رَسُولٌ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وهَذا مِن خَطَأِ القِياسِ وفَسادِ الِاسْتِدْلالِ، وذَلِكَ بِحَصْرِ الشَّيْءِ ذِي الأسْبابِ المُتَعَدِّدَةِ في سَبَبٍ واحِدٍ، والغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِ الأسْبابِ يَخْلُفُ بَعْضُها بَعْضًا، مَعَ الغَفْلَةِ عَنِ الفارِقِ في قِياسِ حالِهِمْ عَلى حالِ آبائِهِمْ بِأنَّ آباءَهم لَمْ يَأْتِهِمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وأمّا أقْوامُ الرُّسُلِ فَإنَّ الرُّسُلَ تُحَذِّرُهُمُ الغَضَبَ والبَأْساءَ والضَّرّاءَ فَتَحِيقُ بِهِمْ، أفَلا يَدُلُّهم ذَلِكَ عَلى أنَّ ما حَصَلَ لَهم هو مِن غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، عَلى أنَّ غَضَبَ اللَّهِ لَيْسَ مُنْحَصِرَ التَّرَتُّبِ عَلى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بَلْ يَكُونُ أيْضًا عَنِ الِانْغِماسِ في الضَّلالِ المُبِينِ، مَعَ وُضُوحِ أدِلَّةِ الهُدى لِلْعُقُولِ، فَإنَّ الإشْراكَ ضَلالٌ، وأدِلَّةُ التَّوْحِيدِ واضِحَةٌ لِلْعُقُولِ، فَإذا تَأيَّدَتِ الدَّلالَةُ بِإرْسالِ الرُّسُلِ المُنْذِرِينَ قَوِيَتِ الضَّلالَةُ بِاسْتِمْرارِها، وانْقِطاعِ أعْذارِها، ومِثْلُ هَذا الخَطَأِ يَعْرِضُ لِلنّاسِ بِداعِي الهَوى وإلْفِ حالِ الضَّلالِ.

والفاءُ في قَوْلِهِ فَأخَذْناهم لِلتَّعْقِيبِ عَنْ قَوْلِهِ عَفَوْا وقالُوا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِما غايَةً لِإبْدالِ الحَسَنَةِ مَكانَ السَّيِّئَةِ، ولا إشْعارَ فِيهِ بِأنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ هو سَبَبُ أخْذِهِمْ

صفحة ٢٠

بَغْتَةً ولَكِنَّهُ دَلَّ عَلى إصْرارِهِمْ، أيْ: فَحَصَلَ أخْذُنا إيّاهم عَقِبَ تَحَسُّنِ حالِهِمْ وبَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ.

والتَّعْقِيبُ عُرْفِيٌّ فَيَصْدُقُ بِالمُدَّةِ الَّتِي لا تُعَدُّ طُولًا في العادَةِ لِحُصُولِ مِثْلِ هَذِهِ الحَوادِثِ العَظِيمَةِ.

والأخْذُ هُنا بِمَعْنى الإهْلاكِ كَما في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] في سُورَةِ الأنْعامِ.

والبَغْتَةُ: الفَجْأةُ، وتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿حَتّى إذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٣١]، وفي قَوْلِهِ ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤] في سُورَةِ الأنْعامِ، وتَقَدَّمَ هُنالِكَ وجْهُ نَصْبِها.

وجُمْلَةُ وهم يَشْعُرُونَ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى بَغْتَةً.