Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾
فُصِلَتِ الجُمْلَةُ ولَمْ تُعْطَفْ لِوُقُوعِها في سِياقِ المُحاوَرَةِ بَيْنَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ورَبِّهُ، فَإنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا أجابَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: ٤٧] إلى آخِرِهِ خاطَبَهُ رَبُّهُ إتْمامًا لِلْمُحاوَرَةِ بِما يُسَكِّنُ جَأْشَهُ.
وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَقُولَ: قالَ يا نُوحُ اهْبِطْ، ولَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إلى بِناءِ الفِعْلِ لِلنّائِبِ لِيَجِيءَ عَلى وتِيرَةِ حِكايَةِ أجْزاءِ القِصَّةِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي﴾ [هود: ٤٤] . . . ﴿وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [هود: ٤٤] فَحَصَلَ بِذَلِكَ البِناءِ قَضاءُ حَقِّ الإشارَةِ إلى جُزْءِ القِصَّةِ، كَما حَصَلَ بِالفَصْلِ قَضاءُ حَقِّ الإشارَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ القَوْلَ جُزْءُ المُحاوَرَةِ.
صفحة ٨٩
ونِداءُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِلتَّنْوِيهِ بِهِ بَيْنَ المَلَأِ.والهُبُوطُ: النُّزُولُ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والمُرادُ: النُّزُولُ مِنَ السَّفِينَةِ لِأنَّها كانَتْ أعْلى مِنَ الأرْضِ.
والسَّلامُ: التَّحِيَّةُ، وهو مِمّا يُخاطَبُ بِها عِنْدَ الوَداعِ أيْضًا، يَقُولُونَ: اذْهَبْ بِسَلامٍ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلامِ عَلَيْكُما
وخِطابُهُ بِالسَّلامِ حِينَئِذٍ إيماءٌ إلى أنَّهُ كانَ في ضِيافَةِ اللَّهِ - تَعالى - لِأنَّهُ كانَ كافِلًا لَهُ النَّجاةَ، كَما قالَ - تَعالى: ﴿وحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ ألْواحٍ ودُسُرٍ﴾ [القمر: ١٣] ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ [القمر: ١٤]
وأصْلُ السَّلامِ السَّلامَةُ، فاسْتُعْمِلَ عِنْدَ اللِّقاءِ إيذانًا بِتَأْمِينِ المَرْءِ مُلاقِيَهُ وأنَّهُ لا يُضْمِرُ لَهُ سُوءًا، ثُمَّ شاعَ فَصارَ قَوْلًا عِنْدَ اللِّقاءِ لِلْإكْرامِ. وبِذَلِكَ نَهى النَّبِيُّ ﷺ الَّذِينَ قالُوا: السَّلامُ عَلى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنا ﴿اهْبِطْ بِسَلامٍ﴾ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: ٤٦] فَإنَّ السَّلامَ ظاهِرٌ في التَّحِيَّةِ لِتَقْيِيدِهِ بِـ (آمِنِينَ) . ولَوْ كانَ السَّلامُ مُرادًا بِهِ السَّلامَةُ لَكانَ التَّقْيِيدُ بِـ (آمَنِينَ) تَوْكِيدًا وهو خِلافُ الأصْلِ.
و(مِنّا) تَأْكِيدٌ لِتَوْجِيهِ السَّلامِ إلَيْهِ لِأنَّ (مِنِ) ابْتِدائِيَّةٌ، فالمَعْنى: بِسَلامٍ ناشِئٍ مِن عِنْدِنا، كَقَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] . وذَلِكَ كَثِيرٌ في كَلامِهِمْ. وهَذا التَّأْكِيدُ يُرادُ بِهِ زِيادَةُ الصِّلَةِ والإكْرامِ فَهو أشَدُّ مُبالَغَةً مِنَ الَّذِي لا تُذْكَرُ مَعَهُ (مِن) .
والباءُ لِلْمُصاحَبَةِ، أيِ اهْبِطْ مَصْحُوبًا بِسَلامٍ مِنّا. ومُصاحَبَةُ السَّلامِ الَّذِي هو التَّحِيَّةُ مُصاحِبَةٌ مَجازِيَّةٌ.
صفحة ٩٠
والبَرَكاتُ: الخَيْراتُ النّامِيَةُ، واحِدَتُها بَرَكَةٌ، وهي مِن كَلِماتِ التَّحِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ في الدُّعاءِ.ولَمّا كانَ الدّاعُونَ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ إنَّما يَسْألُونَ اللَّهَ بِدُعاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَصُدُورُ هَذا الدُّعاءِ مِن لَدُنْهِ قائِمٌ مَقامَ إجابَةِ الدُّعاءِ فَهو إفاضَةُ بَرَكاتٍ عَلى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن مَعَهُ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيمُهم وتَأْمِينُهم والإنْعامُ عَلَيْهِمْ.
و(عَلَيْكَ) يَتَعَلَّقُ (بِسَلامٍ) و(بَرَكاتٍ) وكَذَلِكَ ﴿وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾
والأُمَمُ: جَمْعُ أُمَّةٍ. والأُمَّةُ: الجَماعَةُ الكَثِيرَةُ مِنَ النّاسِ الَّتِي يَجْمَعُها نَسَبٌ إلى جَدٍّ واحِدٍ. يُقالُ: أُمَّةُ العَرَبِ، أوْ لُغَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ التُّرْكِ، أوْ مَوْطِنٌ مِثْلَ أُمَّةِ أمْرِيكا، أوْ دِينٌ مِثْلَ الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، فَـ (أُمَمٌ) دالٌّ عَلى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأُمَمِ يَكُونُ بَعْدَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . ولَيْسَ الَّذِينَ رَكِبُوا في السَّفِينَةِ أُمَمًا لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ لِقَوْلِهِ: ﴿وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] . وتَنْكِيرُ (أُمَمٍ) لِأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعْمِيمَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: ﴿وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾
و(مِن) في ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾ ابْتِدائِيَّةٌ، و(مَن) المَوْصُولَةُ صادِقَةٌ عَلى الَّذِينَ رَكِبُوا مَعَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في السَّفِينَةِ. ومِنهم أبْناؤُهُ الثَّلاثَةُ. فالكَلامُ بِشارَةٌ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن مَعَهُ بِأنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ مِنهم أُمَمًا كَثِيرَةً يَكُونُونَ مَحَلَّ كَرامَتِهِ وبَرَكاتِهِ. وفِيهِ إيذانٌ بِأنْ يَجْعَلَ مِنهم أُمَمًا بِخِلافِ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ قَوْلَهُ: ﴿وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾
وهَذا النَّظْمُ يَقْتَضِي أنَّ اللَّهَ بَدَأ نُوحًا بِالسَّلامِ والبَرَكاتِ وشَرَكَ مَعَهُ فِيهِما أُمَمًا ناشِئِينَ مِمَّنْ هم مَعَهُ، وفِيهِمُ النّاشِئُونَ مِن نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِأنَّ في جُمْلَةِ مَن مَعَهُ أبْناءَهُ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ نَسْلُهُ مِن بَعْدِهِ. فَتَعَيَّنَ أنَّ الَّذِينَ مَعَهُ يَشْمَلُهُمُ السَّلامُ والبَرَكاتُ بادِئَ بَدِيءٍ قَبْلَ نَسْلِهِمْ إذْ عُنْوِنَ عَنْهم بِوَصْفِ مَعِيَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَنْبِيهًا عَلى سَبَبِ كَرامَتِهِمْ. وإذْ كانَ التَّنْوِيهُ بِالنّاشِئِينَ
صفحة ٩١
عَنْهم إيماءً إلى أنَّ اخْتِصاصَهم بِالكَرامَةِ لِأجْلِ كَوْنِهِمْ ناشِئِينَ عَنْ فِئَةٍ مُكَرَّمَةٍ بِمُصاحَبَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَحَصَلَ تَنْوِيهُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وصُحْبَتِهِ ونَسْلِهِمْ بِطَرِيقِ إيجازٍ بَدِيعٍ.وجُمْلَةُ ﴿وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ إلَخْ، عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا﴾ إلى آخِرِها، وهي اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّها تَبْيِينٌ لِما أفادَهُ التَّنْكِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ مِنَ الِاحْتِرازِ عَنْ أُمَمٍ آخَرِينَ. وهَذِهِ الواوُ تُسَمّى اسْتِئْنافِيَّةً وأصْلُها الواوُ العاطِفَةُ وبَعْضُهم يُرْجِعُها إلى الواوِ الزّائِدَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلتَّقْسِيمِ، والمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اتِّباعِ سَبِيلِ الَّذِينَ أُغْرِقُوا، والمَقْصُودُ مِن حِكايَةِ ذَلِكَ في القُرْآنِ التَّعْرِيضُ بِالمُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ فَإنَّهم مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ ولَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ جَدِّهِمْ، فَأُشْعِرُوا بِأنَّهم مِنَ الأُمَمِ الَّتِي أنْبَأ اللَّهُ نُوحًا بِأنَّهُ سَيُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم عَذابٌ ألِيمٌ. ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣] أيْ وكانَ المُتَحَدَّثُ عَنْهم غَيْرَ شاكِرِينَ لِلنِّعْمَةِ.
وإطْلاقُ المَسِّ عَلى الإصابَةِ القَوِيَّةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ﴾ [الأنعام: ١٧] في الأنْعامِ.
وذِكْرُ (مِنّا) مَعَ يَمَسُّهم لِمُقابَلَةِ قَوْلِهِ في ضِدِّهِ ﴿بِسَلامٍ مِنّا﴾ لِيَعْلَمُوا أنَّ ما يُصِيبُ الأُمَّةَ مِنَ الأحْوالِ الزّائِدَةِ عَلى المُعْتادِ في الخَيْرِ والشَّرِّ هو إعْلامٌ مِنَ اللَّهِ بِالرِّضى أوِ الغَضَبِ لِئَلّا يَحْسَبُوا ذَلِكَ مِن سُنَّةِ تُرَتَّبِ المُسَبَّباتِ العادِيَّةِ عَلى أسْبابِها، إذْ مِن حَقِّ النّاسِ أنْ يَتَبَصَّرُوا في الحَوادِثِ ويَتَوَسَّمُوا في جَرَيانِ أحْوالِهِمْ عَلى مُرادِ اللَّهِ - تَعالى - مِنهم ويَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يُخاطِبُهم بِدَلالَةِ الكائِناتِ عِنْدَ انْقِطاعِ خِطابِهِ إيّاهم عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَإنَّ الرُّسُلَ يُبَيِّنُونَ لَهم طُرُقَ الدَّلالَةِ ويَكِلُونَ إلَيْهِمُ النَّظَرَ في وضْعِ المَدْلُولاتِ عِنْدَ دَلالاتِها. ومِثالُهُ ما هُنا فَقَدْ بَيَّنَ لَهم عَلى لِسانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ يُمَتِّعُ أُمَمًا ثُمَّ يَمَسُّهم عَذابٌ ألِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.