﴿ولَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بِالبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى أيْدِيَهم لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهم وأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ ﴿وامْرَأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبُ﴾ ﴿قالَتْ يا ويْلَتا ءاَلِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ﴿قالُوا أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكم أهْلَ البَيْتِ إنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾

عَطْفُ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ.

وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِلِاهْتِمامِ بِهِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ [هود: ٢٥]

صفحة ١١٦

والغَرَضُ مِن هَذِهِ القِصَّةِ هو المَوْعِظَةُ بِمَصِيرِ قَوْمِ لُوطٍ إذْ عَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَحَلَّ بِهِمُ العَذابُ ولَمْ تُغْنِ عَنْهم مُجادَلَةُ إبْراهِيمَ. وقُدِّمَتْ قِصَّةُ إبْراهِيمَ لِذَلِكَ ولِلتَّنْوِيهِ بِمَقامِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلى وجْهِ الإدْماجِ، ولِذَلِكَ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الحِكايَةِ في القَصَصِ الَّتِي قَبْلَها والَّتِي بَعْدَها نَحْوَ (وإلى عادٍ) إلَخْ.

والرُّسُلُ: المَلائِكَةُ. قالَ - تَعالى: ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ [فاطر: ١]

والبُشْرى: اسْمٌ لِلتَّبْشِيرِ والبِشارَةِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ. هَذِهِ البُشْرى هي الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ﴾ لِأنَّ بِشارَةَ زَوْجِهِ بِابْنٍ بِشارَةٌ لَهُ أيْضًا.

والباءُ في (بِالبُشْرى) لِلْمُصاحَبَةِ لِأنَّهم جاءُوا لِأجْلِ البُشْرى فَهي مُصاحِبَةٌ لَهم كَمُصاحَبَةِ الرِّسالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِها.

وجُمْلَةُ ﴿قالُوا سَلامًا﴾ في مَوْضِعِ البَيانِ لِلْبُشْرى؛ لِأنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ مَبْدَأُ البُشْرى، وإنَّ ما اعْتُرِضَ بَيْنَها حِكايَةُ أحْوالٍ، وقَدِ انْتَهى إلَيْها في قَوْلِهِ: ﴿فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿إنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾

والسَّلامُ: التَّحِيَّةُ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] في سُورَةِ الأنْعامِ.

و(سَلامًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وقَعَ بَدَلًا مِنَ الفِعْلِ. والتَّقْدِيرُ: سَلَّمْنا سَلامًا.

و(سَلامٌ) المَرْفُوعُ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلى الخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أمْرِي سَلامٌ، أيْ لَكم، مِثْلَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) . ورَفْعُ المَصْدَرِ أبْلَغُ مِن نَصْبِهِ؛ لِأنَّ الرَّفْعَ فِيهِ تَنامِي مَعْنى الفِعْلِ فَهو أدَلُّ عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ. ولِذَلِكَ خالَفَ بَيْنَهُما لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَدَّ السَّلامَ بِعِبارَةٍ أحْسَنَ مِن عِبارَةِ الرُّسُلِ زِيادَةً في الإكْرامِ.

قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَيّا الخَلِيلُ بِأحْسَنِ مِمّا حُيِّيَ بِهِ، أيْ نَظَرًا إلى الأدَبِ الإلَهِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ لَنا في القُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ [النساء: ٨٦]

صفحة ١١٧

فَحُكِيَ ذَلِكَ بِأوْجَزِ لَفْظٍ في العَرَبِيَّةِ أداءً لِمَعْنى كَلامِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في الكَلْدانِيَّةِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿قالَ سَلامٌ﴾ - بِفَتْحِ السِّينِ وبِألْفٍ بَعْدِ اللّامِ - . وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: (قالَ سِلْمٌ) - بِكَسْرِ السِّينِ وبِدُونِ ألْفٍ بَعْدِ اللّامِ - وهو اسْمُ المُسالَمَةِ. وسُمِّيَتْ بِهِ التَّحِيَّةُ كَما سُمِّيَتْ بِمُرادِفِهِ (سَلامٌ) فَهو مِن بابِ اتِّحادِ وزْنِ فَعّالٍ وفِعْلٍ في بَعْضِ الصِّفاتِ مِثْلَ: حَرامٌ وحَرْمٌ، وحَلالٌ وحَلٌّ.

والفاءُ في قَوْلِهِ: فَما لَبِثَ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّعْقِيبِ إسْراعًا في إكْرامِ الضَّيْفِ، وتَعْجِيلِ القِرى سُنَّةٌ عَرَبِيَّةٌ: ظَنَّهم إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ناسًا فَبادَرَ إلى قِراهِمْ.

واللُّبْثُ في المَكانِ يَقْتَضِي الِانْتِقالَ عَنْهُ، أيْ فَما أبْطَأ. و(أنْ جاءَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فاعِلَ (لَبِثَ)، أيْ فَما لَبِثَ مَجِيئُهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، أيْ فَما أبْطَأ مَجِيئُهُ مُصاحِبًا لَهُ، أيْ بَلْ عَجَّلَ. ويَجُوزُ جَعْلُ فاعِلِ لَبِثَ ضَمِيرُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَيُقَدَّرُ جارٌّ لِـ (جاءَ) . والتَّقْدِيرُ: فَما لَبِثَ بِأنْ جاءَ بِهِ. وانْتِفاءُ اللُّبْثِ مُبالَغَةٌ فِي‌‌ العَجَلِ‌‌‌ .

والحَنِيذُ: المَشْوِيُّ، وهو المَحْنُوذُ. والشَّيُّ أسْرَعُ مِنَ الطَّبْخِ، فَهو أعْوَنُ عَلى تَعْجِيلِ إحْضارِ الطَّعامِ لِلضَّيْفِ.

و(﴿لا تَصِلُ إلَيْهِ﴾) أشَدُّ في عَدَمِ الأخْذِ مِن (لا تَتَناوَلُهُ)

ويُقالُ: نَكِرَ الشَّيْءَ إذا أنْكَرَهُ أيْ كَرِهَهُ.

وإنَّما نَكِرَهم لِأنَّهُ حَسِبَ أنَّ إمْساكَهم عَنِ الأكْلِ لِأجْلِ التَّبَرُّؤِ مِن طَعامِهِ، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ في عادَةِ النّاسِ في ذَلِكَ الزَّمانِ إذا كانَ النّازِلُ بِالبَيْتِ يُضْمِرُ شَرًّا لِمُضِيفِهِ؛ لِأنَّ أكْلَ طَعامِ القِرى كالعَهْدِ عَلى السَّلامَةِ مِنَ الأذى؛ لِأنَّ الجَزاءَ عَلى الإحْسانِ بِالإحْسانِ مَرْكُوزٌ في الفِطْرَةِ، فَإذا انْكَفَّ أحَدٌ عَنْ تَناوُلِ الإحْسانِ فَذَلِكَ لِأنَّهُ لا يُرِيدُ المُسالَمَةَ ولا يَرْضى أنْ يَكُونَ كَفُورًا لِلْإحْسانِ.

صفحة ١١٨

ولِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: (نَكِرَهم) بِـ أوْجَسَ مِنهم خِيفَةً، أيْ أحَسَّ في نَفْسِهِ خِيفَةً مِنهم وأضْمَرَ ذَلِكَ. ومَصْدَرُهُ الإيجاسُ. وذَلِكَ أنَّهُ خَشِيَ أنْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ شَرًّا لَهُ، أيْ حَسِبَهم قُطّاعًا، وكانُوا ثَلاثَةً وكانَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وحْدَهُ.

وجُمْلَةُ ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ مَفْصُولَةٌ عَمّا قَبْلَها؛ لِأنَّها أشْبَهَتِ الجَوابَ؛ لِأنَّهُ لَمّا أوْجَسَ مِنهم خِيفَةً ظَهَرَ أثَرُها عَلى مَلامِحِهِ، فَكانَ ظُهُورُ أثَرِها بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ إنِّي خِفْتُ مِنكم، ولِذَلِكَ أجابُوا ما في نَفْسِهِ بِقَوْلِهِمْ لا تَخَفْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْهم بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحْكى بِها المُحاوَراتُ، أوْ هو جَوابُ كَلامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً﴾ [الذاريات: ٢٨]، أيْ وقالَ لَهم: إنِّي خِفْتُ مِنكم، كَما حُكِيَ في سُورَةِ الحِجْرِ ﴿قالَ إنّا مِنكم وجِلُونَ﴾ [الحجر: ٥٢] . ومِن شَأْنِ النّاسِ إذا امْتَنَعَ أحَدٌ مِن قَبُولِ طَعامِهِمْ أنْ يَقُولُوا لَهُ: لَعَلَّكَ غادِرٌ أوْ عَدُوٌّ، وقَدْ كانُوا يَقُولُونَ لِلْوافِدِ: أحَرْبٌ أمْ سِلْمٌ.

وقَوْلُهم ﴿إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ مُكاشَفَةً مِنهم إيّاهُ بِأنَّهم مَلائِكَةٌ. والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنَةٌ لِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ.

والحِكْمَةُ مِن ذَلِكَ كَرامَةُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وصُدُورُهم عَنْ عِلْمٍ مِنهُ.

وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (أرْسَلْنا) أيْ بِأيِّ شَيْءٍ، إيجازًا لِظُهُورِهِ مِن هَذِهِ القِصَّةِ وغَيْرِها.

وعَبَّرَ عَنِ الأقْوامِ المُرادِ عَذابُهم بِطَرِيقِ الإضافَةِ (قَوْمُ لُوطٍ) إذْ لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الأقْوامِ اسْمٌ يَجْمَعُهم ولا يَرْجِعُونَ إلى نَسَبٍ بَلْ كانُوا خَلِيطًا مِن فَصائِلَ عُرِفُوا بِأسْماءِ قُراهم، وأشْهَرُها سَدُومُ كَما تَقَدَّمَ في الأعْرافِ.

وجُمْلَةُ ﴿وامْرَأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ أوْجَسَ؛ لِأنَّ امْرَأةَ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَتْ حاضِرَةً تُقَدِّمُ الطَّعامَ إلَيْهِمْ، فَإنَّ عادَتَهم كَعادَةِ العَرَبِ مِن بَعْدِهِمْ أنَّ رَبَّةَ المَنزِلِ تَكُونُ خادِمَةَ القَوْمِ: وفي الحَدِيثِ ”«والعَرُوسُ خادِمُهم» “ . وقالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكانَ التَّمِيمِيُّ:

صفحة ١١٩

يا رَبَّةَ البَيْتِ قُومِي غَيْرَ صاغِرَةٍ ضُمِّي إلَيْكِ رِجالِ القَوْمِ والغُرَبا

وقَدِ اخْتُصِرَتِ القِصَّةُ هُنا اخْتِصارًا بَدِيعًا لِوُقُوعِها في خِلالِ الحِوارِ بَيْنَ الرُّسُلِ وإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وحِكايَةُ ذَلِكَ الحِوارِ اقْتَضَتْ إتْمامَهُ بِحِكايَةِ قَوْلِهِمْ ﴿لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ . وأمّا البُشْرى فَقَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ أنْ يُخْبِرُوهُ بِأنَّهم أُرْسِلُوا إلى قَوْمِ لُوطٍ كَما في آيَةِ سُورَةِ الذّارِياتِ ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: ٢٨] . فَلَمّا اقْتَضى تَرْتِيبُ المُحاوَرَةِ تَقْدِيمَ جُمْلَةِ ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ حُكِيَتْ قِصَّةُ البُشْرى وما تَبِعَها مِنَ المُحاوَرَةِ بِطَرِيقَةِ الحالِ؛ لِأنَّ الحالَ تَصْلُحُ لِلْقَبْلِيَّةِ ولِلْمُقارَنَةِ ولِلْبَعْدِيَّةِ، وهي الحالُ المُقَدَّرَةُ.

وإنَّما ضَحِكَتِ امْرَأةُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن تَبْشِيرِ المَلائِكَةِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِغُلامٍ، وكانَ ضَحِكُها ضَحِكَ تَعَجُّبٍ واسْتِبْعادٍ. وقَدْ وقَعَ في التَّوْراةِ في الإصْحاحِ الثّامِنِ عَشَرَ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ وقالُوا لَهُ: أيْنَ سارَّةُ امْرَأتُكَ ؟ فَقالَ: ها هي في الخَيْمَةِ. فَقالُوا: يَكُونُ لِسارَّةَ امْرَأتِكَ ابْنٌ، وكانَتْ سارَّةُ سامِعَةً في بابِ الخَيْمَةِ فَضَحِكَتْ سارَّةُ في باطِنِها قائِلَةً: أفَبِالحَقِيقَةِ ألِدُ وأنا قَدْ شِخْتُ ؟ فَقالَ الرَّبُّ: لِماذا ضَحِكَتْ سارَّةُ ؟ فَأنْكَرَتْ سارَّةُ قائِلَةً لَمْ أضْحَكْ؛ لِأنَّها خافَتْ، قالَ: لا بَلْ ضَحِكْتِ.

وتَفْرِيعُ ﴿فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ﴾ عَلى جُمْلَةِ ضَحِكَتْ بِاعْتِبارِ المَعْطُوفِ وهو ﴿ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾ لِأنَّها ما ضَحِكَتْ إلّا بَعْدَ أنْ بَشَّرَها المَلائِكَةُ بِابْنٍ، فَلَمّا تَعَجَّبَتْ مِن ذَلِكَ بَشَّرُوها بِابْنِ الِابْنِ زِيادَةً في البُشْرى. والتَّعْجِيبُ بِأنْ يُولَدَ لَها ابْنٌ ويَعِيشَ وتَعِيشَ هي حَتّى يُولَدَ لِابْنِها ابْنٌ. وذَلِكَ أدْخَلَ في العَجَبِ لِأنَّ شَأْنَ أبْناءِ الشُّيُوخِ أنْ يَكُونُوا مَهْزُولِينَ لا يَعِيشُونَ غالِبًا إلّا مَعْلُولَيْنِ، ولا يُولَدُ لَهم في الأكْثَرِ ولِأنَّ شَأْنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يُولَدُ لَهم أنْ لا يُدْرِكُوا يَفْعَ أوْلادِهِمْ بَلْهُ أوْلادِ أوْلادِهِمْ.

ولَمّا بَشَّرُوها بِذَلِكَ صَرَّحَتْ بِتَعَجُّبِها الَّذِي كَتَمَتْهُ بِالضَّحِكِ، فَقالَتْ

صفحة ١٢٠

﴿يا ويْلَتا أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بِعَلِي شَيْخًا إنَّ هَذا لِشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾، فَجُمْلَةُ قالَتْ جَوابٌ لِلْبِشارَةِ.

ويَعْقُوبُ مُبْتَدَأٌ ﴿ومِن وراءِ إسْحاقَ﴾ خَبَرٌ، والجُمْلَةُ عَلى هَذا في مَحَلِّ الحالِ. وهَذِهِ قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ يَعْقُوبَ بِفَتْحَةٍ وهو حِينَئِذٍ عَطْفٌ عَلى إسْحاقَ. وفُصِلَ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وخَطْبُهُ سَهْلٌ وإنِ اسْتَعْظَمَهُ ظاهِرِيَّةُ النُّحاةِ كَأبِي حَيّانَ بِقِياسِ حَرْفِ العَطْفِ النّائِبِ هُنا مَنابَ الجارِّ عَلى الجارِّ نَفْسِهِ، وهو قِياسٌ ضَعِيفٌ إذْ كَوْنُ لَفْظٍ بِمَعْنى لَفْظٍ لا يَقْتَضِي إعْطاءَهُ جَمِيعَ أحْكامِهِ كَما في مُغْنِي اللَّبِيبِ.

والنِّداءُ في (يا ويْلَتا) اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَنْزِيلِ الوَيْلَةِ مَنزِلَةَ مَن يَعْقِلُ حَتّى تُنادى، كَأنَّها تَقُولُ: يا ويْلَتِي احْضُرْ هُنا فَهَذا مَوْضِعُكَ.

والوَيْلَةُ: الحادِثَةُ الفَظِيعَةُ والفَضِيحَةُ. ولَعَلَّها المَرَّةُ مِنَ الوَيْلِ. وتُسْتَعْمَلُ في مَقامِ التَّعَجُّبِ، يُقالُ: يا ويْلَتِي.

واتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى قِراءَةِ يا ويْلَتا - بِفَتْحَةٍ مُشْبَعَةٍ في آخِرِهِ بِألْفٍ - . والألِفُ الَّتِي في آخِرِ (يا ويْلَتا) هُنا يَجُوزُ كَوْنُها عِوَضًا عَنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ في النِّداءِ. والأظْهَرُ أنَّها ألِفُ الِاسْتِغاثَةِ الواقِعَةِ خَلَفًا عَنْ لامِ الِاسْتِغاثَةِ. وأصِلُهُ: يا لِوَيْلَةَ. وأكْثَرُ ما تَجِيءُ هَذِهِ الألِفُ في التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ عَجِبَ، نَحْوَ: يا عَجَبًا، وبِاسْمِ شَيْءٍ مُتَعَجَّبٍ مِنهُ، نَحْوَ: يا عُشْبًا.

وكُتِبَ في المُصْحَفِ بِإمالَةٍ ولَمْ يُقْرَأْ بِالإمالَةِ، قالَ الزَّجّاجُ: كُتِبَ بِصُورَةِ الياءِ عَلى أصْلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ.

والِاسْتِفْهامُ في ﴿أألِدُ وأنا عَجُوزٌ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعَجُّبِ. وجُمْلَةُ أنا عَجُوزٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وهي مَناطُ التَّعَجُّبِ.

والبَعْلُ: الزَّوْجُ. وسَيَأْتِي بَيانُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] في سُورَةِ النُّورِ، فانْظُرْهُ.

صفحة ١٢١

وزادَتْ تَقْرِيرَ التَّعَجُّبِ بِجُمْلَةِ ﴿إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ وهي جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِكَمالِ الِاتِّصالِ، وكَأنَّها كانَتْ مُتَرَدِّدَةً في أنَّهم مَلائِكَةٌ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ لِتَحْقِيقِ بُشْراهم.

وجُمْلَةُ (هَذا بَعْلِي) مُرَكَّبَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ لِأنَّ المَعْنى: هَذا المُشارُ إلَيْهِ هو بَعْلِي، أيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ ولَدٌ وهو كَما تَرى. وانْتَصَبَ (شَيْخًا) عَلى الحالِ مِنِ اسْمِ الإشارَةِ مُبَيِّنَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الإشارَةِ.

وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ (وهَذا بَعْلِي شَيْخٌ) - بِرَفْعِ شَيْخٍ - عَلى أنَّ (بَعْلِي) بَيانٌ مِن هَذا وشَيْخٌ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. ومَعْنى القِراءَتَيْنِ واحِدٌ.

وقَدْ جَرَتْ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ نادِرَةٌ لَطِيفَةٌ وهي ما أخْبَرَنا شَيْخُنا الأُسْتاذُ الجَلِيلُ سالِمُ بُو حاجِبٍ أنَّ أبا العَبّاسِ المُبَرِّدَ دُعِيَ عِنْدَ بَعْضِ الأعْيانِ في بَغْدادَ إلى مَأْدُبَةٍ، فَلَمّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعامِ غَنَّتْ مِن وراءِ السِّتارِ جارِيَةٌ لِرَبِّ المَنزِلِ بِبَيْتَيْنِ:

وقالُوا لَها هَذا حَبِيبُكِ مُـعْـرِضٌ ∗∗∗ فَقالَتْ: ألا إعْراضُهُ أهْوَنُ الخَطْبِ

فَما هي إلّا نَظْرَةٌ وابْـتِـسَـامَةٌ ∗∗∗ فَتَصْطَكُّ رِجْلاهُ ويَسْقُطُ لِلْجَنْـبِ

فَطَرِبَ كُلُّ مَن بِالمَجْلِسِ إلّا أبا العَبّاسِ المُبَرِّدَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَقالَ لَهُ رَبُّ المَنزِلِ: ما لَكَ لَمْ يُطْرِبْكَ هَذا ؟ فَقالَتِ الجارِيَةُ: مَعْذُورٌ يَحْسَبُنِي لَحَنْتُ في أنْ قُلْتُ: مُعْرِضٌ بِالرَّفْعِ ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ (وهَذا بَعْلِي شَيْخٌ) فَطَرِبَ المُبَرِّدُ لِهَذا الجَوابِ.

وجَوابُ المَلائِكَةِ إيّاها بِجُمْلَةِ ﴿أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ إنْكارٌ لِتَعَجُّبِها لِأنَّهُ تَعَجُّبٌ مُرادٌ مِنهُ الِاسْتِبْعادُ. وأمْرُ اللَّهِ هو أمْرُ التَّكْوِينِ، أيْ أتَعْجَبِينَ مِن

صفحة ١٢٢

قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى خَرْقِ العاداتِ. وجَوابُهم جارٍ عَلى ثِقَتِهِمْ بِأنَّ خَبَرَهم حَقٌّ مُنْبِئٌ عَنْ أمْرِ اللَّهِ.

وجُمْلَةُ ﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِإنْكارِ تَعَجُّبِها؛ لِأنَّ الإنْكارَ في قُوَّةِ النَّفْيِ، فَصارَ المَعْنى: لا عَجَبَ مِن أمْرِ اللَّهِ لِأنَّ إعْطاءَكِ الوَلَدَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وبَرَكَةٌ، فَلا عَجَبَ في تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِها وأنْتُمْ أهْلٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ والبَرَكَةِ فَلا عَجَبَ في وُقُوعِها عِنْدَكم.

وُوَجْهُ تَعْلِيلِ نَفْيِ العَجَبِ بِهَذا أنَّ التَّعَجُّبَ إمّا أنْ يَكُونَ مِن صُدُورِ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ وإمّا أنْ يَكُونَ في تَخْصِيصِ اللَّهِ بِهِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وامْرَأتَهُ فَكانَ قَوْلُهم ﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ مُفِيدًا تَعْلِيلَ انْتِفاءِ العَجَبَيْنِ.

وتَعْرِيفُ البَيْتِ تَعْرِيفُ حُضُورٍ، وهو البَيْتُ الحاضِرُ بَيْنَهُمُ الَّذِي جَرى فِيهِ هَذا التَّحاوُرُ، أيْ بَيْتُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ. والمَعْنى أهْلُ هَذا البَيْتِ.

والمَقْصُودُ مِنَ النِّداءِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ ويَجُوزُ كَوْنُهُ اخْتِصاصًا لِزِيادَةِ بَيانِ المُرادِ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِتَوَجُّهِ رَحْمَتِهِ وبَرَكاتِهِ إلَيْهِمْ بِأنَّ اللَّهَ يَحْمَدُ مَن يُطِيعُهُ، وبِأنَّهُ مَجِيدٌ، أيْ عَظِيمُ الشَّأْنِ لا حَدَّ لِنِعَمِهِ فَلا يَعْظُمُ عَلَيْهِ أنْ يُعْطِيَها ولَدًا، وفي اخْتِيارِ وصْفِ الحَمِيدِ مِن بَيْنِ الأسْماءِ الحُسْنى كِنايَةٌ عَنْ رِضى اللَّهِ - تَعالى - عَلى إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأهْلِهِ.