﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ولِيُنْذَرُوا بِهِ ولِيَعْلَمُوا أنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ ولِيَذَّكَّرَ أُولُوا الألْبابِ﴾ الإشارَةُ إلى الكَلامِ السّابِقِ في السُّورَةِ كُلِّها مِن أيْنَ ابْتَدَأْتَهُ أصَبْتَ مُرادَ الإشارَةِ، والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ لِلسُّورَةِ كُلِّها.

والبَلاغُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّبْلِيغِ، أيْ: هَذا المِقْدارُ مِنَ القُرْآنِ في هَذِهِ السُّورَةِ تَبْلِيغٌ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ.

واللّامُ في ”لِلنّاسِ“ هي المَعْرُوفَةُ بِلامِ التَّبْلِيغِ، وهي الَّتِي تَدْخُلُ عَلى اسْمِ مَن يَسْمَعُ قَوْلًا أوْ ما في مَعْناهُ.

وعَطْفُ ”ولِيُنْذَرُوا“ عَلى بَلاغٍ عَطْفٌ عَلى كَلامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفَظُ بِلاغٍ، إذْ لَيْسَ في الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ ما يَصْلُحُ لِأنْ يُعْطَفُ هَذا عَلَيْهِ؛ فَإنَّ وُجُودَ لامِ الجَرِّ مَعَ وُجُودِ واوِ العَطْفِ مانِعٌ مِن جَعْلِهِ عَطْفًا عَلى الخَبَرِ؛ لِأنَّ المَجْرُورَ إذا وقَعَ خَبَرًا عَنِ المُبْتَدَأِ اتَّصَلَ بِهِ مُباشَرَةً دُونَ عَطْفٍ إذْ هو بِتَقْدِيرِ كائِنٍ أوْ مُسْتَقِرٍّ، وإنَّما تُعْطَفُ الأخْبارُ إذا كانَتْ أوْصافًا؛ والتَّقْدِيرُ: هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ لِيَسْتَيْقِظُوا مِن غَفْلَتِهِمْ ولِيُنْذَرُوا بِهِ.

واللّامُ في ولِيُنْذَرُوا لامُ (كَيْ)، وقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِن نَظْمِ هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى ومَن حَوْلَها﴾ [الأنعام: ٩٢] في سُورَةِ الأنْعامِ.

صفحة ٢٥٥

والمَعْنى: ولِيَعْلَمُوا مِمّا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الأدِلَّةِ ما اللَّهُ إلّا إلَهٌ واحِدٌ، أيْ: مَقْصُورٌ عَلى الإلَهِيَّةِ المُوَحَّدَةِ، وهَذا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلى صِفَةٍ وهو إضافِيٌّ، أيْ: أنَّهُ تَعالى لا يَتَجاوَزُ تِلْكَ الصِّفَةَ إلى صِفَةِ التَّعَدُّدِ بِالكَثْرَةِ أوِ التَّثْلِيثِ، كَقَوْلِهِ ﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾ [النساء: ١٧١] .

والتَّذَكُّرُ: النَّظَرُ في أدِلَّةِ صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ ووُجُوبُ اتِّباعِهِ؛ ولِذَلِكَ خُصَّ بِذَوِي الألْبابِ تَنْزِيلًا لِغَيْرِهِمْ مَنزِلَةَ مَن لا عُقُولَ لَهم ﴿إنْ هم إلّا كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤] .

وقَدْ رُتِّبَتْ صِفاتُ الآياتِ المُشارِ إلَيْها بِاسْمِ الإشارَةِ عَلى تَرْتِيبٍ عَقْلِيٍّ بِحَسْبِ حُصُولِ بَعْضِها عَقِبَ بَعْضٍ، فابْتُدِئَ بِالصِّفَةِ العامَّةِ وهي حُصُولُ التَّبْلِيغِ، ثُمَّ ما يَعْقُبُ حُصُولُ التَّبْلِيغِ مِنَ الإنْذارِ، ثُمَّ ما يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ العِلْمِ بِالوَحْدانِيَّةِ لِما في خِلالِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الدَّلائِلِ، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ في ما جاءَ بِهِ ذَلِكَ البَلاغُ وهو تَفاصِيلُ العِلْمِ والعَمَلِ، وهَذِهِ المَراتِبُ هي جامِعُ حِكْمَةِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مُوَزَّعَةً عَلى مَن بَلَّغَ إلَيْهِمْ، ويَخْتَصُّ المُسْلِمُونَ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ ﴿ولِيَذَّكَّرَ أُولُوا الألْبابِ﴾ .

* * *

صفحة ٥

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الحِجْرِ

سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الحِجْرَ، ولا يُعْرَفُ لَها اسْمٌ غَيْرَهُ، ووَجْهُ التَّسْمِيَةِ أنَّ اسْمَ الحِجْرِ لَمْ يُذْكَرْ في غَيْرِها.

والحِجْرُ اسْمُ البِلادِ المَعْرُوفَةِ بِهِ وهو حِجْرُ ثَمُودَ، وثَمُودُ هم أصْحابُ الحِجْرِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الحِجْرِ﴾ [الحجر: ٨٠]، والمُكْتِبُونَ في كَتاتِيبِ تُونُسَ يَدْعُونَها سُورَةَ رُبَما؛ لِأنَّ كَلِمَةَ (رُبَما) لَمْ تَقَعْ في القُرْآنِ كُلِّهِ إلّا في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّها، وحُكِيَ الِاتِّفاقُ عَلَيْهِ.

وعَنِ الحَسَنِ اسْتِثْناءُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] بِناءً عَلى أنَّ سَبْعًا مِنَ المَثانِي هي سُورَةُ الفاتِحَةِ وعَلى أنَّها مَدَنِيَّةٌ، وهَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ الأصَحَّ أنَّ الفاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ.

واسْتِثْناءُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَما أنْزَلْنا عَلى المُقْتَسِمِينَ﴾ [الحجر: ٩٠] ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١] بِناءً عَلى تَفْسِيرِهِمُ ﴿المُقْتَسِمِينَ﴾ [الحجر: ٩٠] بِأهْلِ الكِتابِ وهو صَحِيحٌ، وتَفْسِيرُ ﴿جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١] أنَّهم قالُوا: ما وافَقَ مِنهُ كِتابَنا فَهو صِدْقٌ وما خالَفَ كِتابَنا فَهو كَذِبٌ، ولَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلّا يَهُودُ المَدِينَةِ، وهَذا لا نُصَحِّحُهُ كَما نُبَيِّنُهُ عِنْدَ الكَلامِ عَلى تِلْكَ الآيَةِ.

صفحة ٦

ولَوْ سَلِمَ هَذا التَّفْسِيرُ مِن جِهَتَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ؛ لِأنَّ اليَهُودَ سَمِعُوا القُرْآنَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ ﷺ بِقَلِيلٍ فَقالُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ، عَلى أنَّهُ قَدْ رُوِيَ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا أهَمَّهم أمْرُ النَّبِيءِ ﷺ اسْتَشارُوا في أمْرِهِ يَهُودَ المَدِينَةِ.

وقالَ في الإتْقانِ: يَنْبَغِي اسْتِثْناءُ قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكم ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَأْخِرِينَ﴾ [الحجر: ٢٤] لِما أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ في سَبَبِ نُزُولِها، وأنَّها في صُفُوفِ الصَّلاةِ اهـ.

وهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلى ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ مِن طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ الجُذامِيِّ عَنْ أبِي الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَتِ امْرَأةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَسْناءُ، فَكانَ بَعْضُ القَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتّى يَكُونَ في الصَّفِّ الأوَّلِ لِئَلّا يَراها، ويَسْتَأْخِرُ بَعْضُهم حَتّى يَكُونَ في الصَّفِّ المُؤَخَّرِ أيْ: مِن صُفُوفِ الرِّجالِ فَإذا رَكَعَ نَظَرَ مِن تَحْتِ إبِطَيْهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكم ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَأْخِرِينَ﴾ [الحجر»: ٢٤] . قالَ التِّرْمِذِيُّ ورَواهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمانَ ولَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبّاسٍ، وهَذا أشْبَهُ أنْ يَكُونَ أصَحَّ مِن حَدِيثِ نُوحٍ اهـ، وهَذا تَوْهِينٌ لِطَرِيقِ نُوحٍ.

قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: وهَذا الحَدِيثُ فِيهِ نَكارَةٌ شَدِيدَةٌ، والظّاهِرُ أنَّهُ مِن كَلامِ أبِي الجَوْزاءِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ لِابْنِ عَبّاسٍ ذِكْرٌ، فَلا اعْتِمادَ إلّا عَلى حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمانَ وهو مَقْطُوعٌ.

وعَلى تَصْحِيحِ أنَّها مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتِ الرّابِعَةَ والخَمْسِينَ في عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ؛ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وقَبْلَ سُورَةِ الأنْعامِ.

ومِنَ العَجِيبِ اخْتِلافُهم في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وهي مُشْتَمِلَةٌ عَلى آيَةِ ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤]، وقَدْ نَزَلَتْ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ ﷺ مِن دارِ الأرْقَمِ في آخِرِ السَّنَةِ الرّابِعَةِ مِن بَعْثَتِهِ.

وعَدَدُ آيِها تِسْعٌ وتِسْعُونَ بِاتِّفاقِ العادِّينَ.

* * *

صفحة ٧

مَقاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ.

افْتُتِحَتْ بِالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ الَّتِي فِيها تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإعْجازِ القُرْآنِ. وعَلى التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ القُرْآنِ وهَدْيِهِ، وإنْذارِ المُشْرِكِينَ بِنَدَمٍ يَنْدَمُونَهُ عَلى عَدَمِ إسْلامِهِمْ، وتَوْبِيخِهِمْ بِأنَّهم شَغَلَهم عَنِ الهُدى انْغِماسُهم في شَهَواتِهِمْ، وإنْذارِهِمْ بِالهَلاكِ عِنْدَ حُلُولِ إبّانِ الوَعِيدِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ في عِلْمِهِ، وتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ عَلى عَدَمِ إيمانِ مَن لَمْ يُؤْمِنُوا، وما يَقُولُونَهُ في شَأْنِهِ وما يَتَوَرَّكُونَ بِطَلَبِهِ مِنهُ، وأنَّ تِلْكَ عادَةُ المُكَذِّبِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ، وأنَّهم لا تُجْدِي فِيهِمُ الآياتُ والنُّذُرُ لَوْ أُسْعِفُوا بِمَجِيءِ آياتٍ حَسَبِ اقْتِراحِهِمْ بِهِ وأنَّ اللَّهَ حافِظٌ كِتابَهُ مِن كَيْدِهِمْ، ثُمَّ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وما فِيهِ مِن نِعَمٍ عَلَيْهِمْ، وذِكْرِ البَعْثِ ودَلائِلِ إمْكانِهِ، وانْتَقَلَ إلى خَلْقِ نَوْعِ الإنْسانِ وما شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ هَذا النَّوْعَ، وقِصَّةِ كُفْرِ الشَّيْطانِ.

ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إبْراهِيمَ ولُوطٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - وأصْحابِ الأيْكَةِ وأصْحابِ الحِجْرِ.

وخُتِمَتْ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ ﷺ وانْتِظارِ ساعَةِ النَّصْرِ، وأنْ يَصْفَحَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُ، ويَكِلَ أمْرَهم إلى اللَّهِ، ويَشْتَغِلَ بِالمُؤْمِنِينَ، وأنَّ اللَّهَ كافِيهِ أعْداءَهُ.

مَعَ ما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِراضِ والإدْماجِ مِن ذِكْرِ خَلْقِ الجِنِّ، واسْتِراقِهِمُ السَّمْعَ، ووَصْفِ أحْوالِ المُتَّقِينَ، والتَّرْغِيبِ في المَغْفِرَةِ، والتَّرْهِيبِ مِنَ العَذابِ.