﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ لَمّا دَلَّتْ (رُبَّ) عَلى التَّقْلِيلِ اقْتَضَتْ أنَّ اسْتِمْرارَهم عَلى غُلَوائِهِمْ هو أكْثَرُ حالِهِمْ، وهو الإعْراضُ عَمّا يَدْعُوهم إلَيْهِ الإسْلامُ مِنَ الكَمالِ النَّفْسِيِّ، فَبِإعْراضِهِمْ عَنْهُ رَضُوا لِأنْفُسِهِمْ بِحَياةِ الأنْعامِ، وهي الِاقْتِصارُ عَلى اللَّذّاتِ الجَسَدِيَّةِ، فَخُوطِبَ الرَّسُولُ ﷺ بِما يُعَرَّضُ لَهم بِذَلِكَ مِن أنَّ حَياتَهم حَياةُ أكْلٍ وشُرْبٍ، وذَلِكَ مِمّا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ في مَجارِي أقْوالِهِمْ كَما في قَوْلِ الحُطَيْئَةِ:

دَعِ المَكارِمَ لا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِها واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطّاعِمُ الكاسِي

وهم مُنْغَمِسُونَ فِيما يَتَعَيَّرُونَ بِهِ في أعْمالِهِمْ قالَ تَعالى ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢] .

صفحة ١٣

و”ذَرْ“ أمْرٌ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ ماضٍ في كَلامِهِمْ، وهو بِمَعْنى التَّرْكِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَعِبًا ولَهْوًا﴾ [الأنعام: ٧٠] في سُورَةِ الأنْعامِ.

والأمْرُ بِتَرْكِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِهِ، وهو قِلَّةُ جَدْوى الحِرْصِ عَلى إصْلاحِهِمْ، ولَيْسَ مُسْتَعْمَلًا في الإذْنِ بِمُتارَكَتِهِمْ؛ لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ مَأْمُورٌ بِالدَّوامِ عَلى دُعائِهِمْ، قالَ تَعالى ﴿وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَعِبًا﴾ [الأنعام: ٧٠] إلى قَوْلِهِ ﴿وذَكِّرْ بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: ٧٠]، فَما أمَرَهُ بِتَرْكِهِمْ إلّا وقَدْ أعْقَبَهُ بِأمْرِهِ بِالتَّذْكِيرِ بِالقُرْآنِ، فَعُلِمَ أنَّ التَّرْكَ مُسْتَعْمَلٌ في عَدَمِ الرَّجاءِ في صَلاحِهِمْ، وهَذا كَقَوْلِ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ في قَتْلِ أخِيها عَبْدِ اللَّهِ تَسْتَنْهِضُ أخاها عَمْرًا لِلْأخْذِ بِثَأْرِهِ:

ودَعْ عَنْكَ عَمْرًا إنَّ عَمْرًا مُسالِمٌ ∗∗∗ وهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ

وقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذا الفِعْلُ وما يُرادُ بِهِ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ الِاحْتِياجِ إلى الإعانَةِ أوْ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الوَساطَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا﴾ [المدثر: ١١]، وقَوْلِهِ ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ﴾ [المزمل: ١١] .

وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في التَّرْكِ المَجازِيِّ بِتَنْزِيلِ المُخاطَبِ مَنزِلَةَ المُتَلَبِّسِ بِالضِّدِّ كَقَوْلِ أبِي تَمّامٍ:

دَعُونِي أنُحْ مِن قَبْلِ نَوْحِ الحَمائِمِ ∗∗∗ ولا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ

إذْ مِثْلُ هَذا يُقالُ عِنْدَ اليَأْسِ والقُنُوطِ عَنْ صَلاحِ المَرْءِ.

وقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّرْكِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ نَزَلَ مَنزِلَةَ ما لا يَحْتاجُ إلى مُتَعَلِّقٍ، إذِ المَعْنِيُّ بِهِ تَرْكُ الِاشْتِغالِ بِهِمْ والبُعْدُ عَنْهم، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُ التَّرْكِ إلى ذَواتِهِمْ لِيَدُلَّ عَلى اليَأْسِ مِنهم.

و”يَأْكُلُوا“ مَجْزُومٌ بِلامِ الأمْرِ المَحْذُوفَةِ كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣١] في سُورَةِ إبْراهِيمَ، وهو

صفحة ١٤

أمْرُ التَّوْبِيخِ والتَّوَعُّدِ والإنْذارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وهو كَقَوْلِهِ ﴿كُلُوا وتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكم مُجْرِمُونَ﴾ [المرسلات: ٤٦] .

ولا يَحْسُنُ جَعْلُهُ مَجْزُومًا في جَوابِ ذَرْهم؛ لِأنَّهم يَأْكُلُونَ ويَتَمَتَّعُونَ سَواءً تَرَكَ الرَّسُولُ ﷺ دَعْوَتَهم أمْ دَعاهم.

والتَّمَتُّعُ: الِانْتِفاعُ بِالمَتاعِ، وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنها قَوْلُهُ ﴿ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأعراف: ٢٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.

وإلْهاءُ الأمَلِ إيّاهم: هو إنْساؤُهُ إيّاهم ما حَقُّهم أنْ يَتَذَكَّرُوهُ؛ بِأنْ يَصْرِفَهم تَطَلُّبُ ما لا يَنالُونَ عَنِ التَّفْكِيرِ في البَعْثِ والحَياةِ والآخِرَةِ.

والأمَلُ: مَصْدَرٌ، وهو ظَنُّ حُصُولِ أمْرٍ مَرْغُوبٍ في حُصُولِهِ مَعَ اسْتِبْعادِ حُصُولِهِ، فَهو واسِطَةٌ بَيْنَ الرَّجاءِ والطَّمَعِ، ألا تَرى إلى قَوْلِ كَعْبٍ:

أرْجُو وآمُلُ أنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُها ∗∗∗ وما إخالُ لَدَيْنا مِنكِ تَنْوِيلُ

وتَفَرَّعَ عَلى التَّعْرِيضِ التَّصْرِيحُ بِالوَعِيدِ بِقَوْلِهِ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ بِأنَّهُ مِمّا يُسْتَعْمَلُ في الوَعِيدِ كَثِيرًا حَتّى صارَ كالحَقِيقَةِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ لِإمْهالِهِمْ أجَلًا مَعْلُومًا كَقَوْلِهِ﴿وسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذابَ﴾ [الفرقان: ٤٢] .