﴿وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ فَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾

لَمّا أُشْبِعَ القَوْلُ في إبْطالِ تَعَدُّدِ الآلِهَةِ الشّائِعِ في جَمِيعِ قَبائِلِ العَرَبِ، وأُتْبِعَ بِإبْطالِ الِاخْتِلاقِ عَلى الرَّسُولِ ﷺ والقُرْآنِ، نُقِلَ الكَلامُ إلى إبْطالِ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ مُتَّبَعٍ عِنْدَ قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ، وهو الإشْراكُ بِإلَهِيَّةِ أصْلَيْنِ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ، تَقَلَّدَتْهُ قَبائِلُ العَرَبِ المُجاوِرَةُ بِلادُ فارِسَ، والسّارِي فِيهِمْ سُلْطانُ كِسْرى وعَوائِدُهم، مِثْلُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ وبَنِي تَمِيمٍ، فَقَدْ دانَ مِنهم كَثِيرٌ بِالمَجُوسِيَّةِ، أيِ المَزْدَكِيَّةِ والمانَوِيَّةِ في زَمَنِ كِسْرى أبْرُويِشَ وفي زَمَنِ كِسْرى أنُوشُرْوانَ، والمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ عَقِيدَةً بِإلَهَيْنِ:

صفحة ١٧٢

إلَهٍ لِلْخَيْرِ: وهو النُّورُ، وإلَهٍ لِلشَّرِّ: وهو الظُّلْمَةُ، فَإلَهُ الخَيْرِ لا يَصْدُرُ مِنهُ إلّا الخَيْرَ والإنْعامَ، وإلَهُ الشَّرِّ لا يَصْدُرُ عَنْهُ إلّا الشَّرُّ والآلامُ، وسَمُّوا إلَهَ الخَيْرِ (يَزْدانُ)، وسَمُّوا إلَهَ الشَّرِّ (آهْرُمُنُ)، وزَعَمُوا أنَّ (يَزْدانَ) كانَ مُنْفَرِدًا بِالإلَهِيَّةِ، وكانَ لا يَخْلُقُ إلّا الخَيْرَ فَلَمْ يَكُنْ في العالَمِ إلّا الخَيْرُ، فَخَطَرَ في نَفْسِهِ مَرَّةً خاطِرُ شَرٍّ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ إلَهٌ آخَرُ شَرِيكٌ لَهُ هو إلَهُ الشَّرِّ، وقَدْ حَكى هَذا المَعَرِّي في لُزُومِيّاتِهِ بِقَوْلِهِ:

فَكَّرَ يَزْدانُ عَلَـى غِـرَّةٍ فَصِيغَ مِن تَفْكِيرِهِ أهْرُمُنْ

.

ولَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ لِهَذَيْنِ الأصْلَيْنِ صُوَرًا مُجَسَّمَةً، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دِينُهم مِن عِدادِ عِبادَةِ الطّاغُوتِ؛ لِاخْتِصاصِ اسْمِ الطّاغُوتِ بِالصُّوَرِ والأجْسامِ المَعْبُودَةِ، وهَذا الدِّينُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ يُشْبِهُ الأدْيانَ الَّتِي لا تَعْبُدُ صُوَرًا مَحْسُوسَةً، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى المَجُوسِيَّةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا﴾ [الحج: ١٧] إلى قَوْلِهِ (والمَجُوسَ) في سُورَةِ الحَجِّ.

ويَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الدِّينَ هو المُرادُ التَّعْقِيبُ بِآيَةِ ﴿وما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تَجْأرُونَ﴾ [النحل: ٥٣] كَما سَيَأْتِي.

فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ، وهو مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَةِ ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] .

ومَعْنى ﴿وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ﴾ أنَّهُ دَعا النّاسَ، ونَصَبَ الأدِلَّةَ عَلى بُطْلانِ اعْتِقادِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ [الفتح: ١٥]، وقَوْلِهِ ﴿كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥] .

وصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ مِن قَوْلِهِ إلَهَيْنِ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ اثْنَيْنِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الِاثْنِينِيَّةَ مَقْصُودَةٌ بِالنَّهْيِ إبْطالًا لِشِرْكٍ مَخْصُوصٍ مِن إشْراكِ المُشْرِكِينَ، وأنَّ لا

صفحة ١٧٣

اكْتِفاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَعَدُّدِ الإلَهِ بَلِ المَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَدُّدِ الخاصِّ، وهو قَوْلُ المَجُوسِ بِإلَهَيْنِ، ووَقَعَ في الكَشّافِ تَوْجِيهُ ذِكْرِ اثْنَيْنِ بِأنَّهُ لِدَفْعِ احْتِمالِ إرادَةِ الجِنْسِ حَقِيقَةً لا مَجازًا.

وإذْ نُهُوا عَنِ اتِّخاذِ إلَهَيْنِ، فَقَدْ دَلَّ بِدَلالَةِ الِاقْتِضاءِ عَلى إبْطالِ اتِّخاذِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَيانًا لِجُمْلَةِ ﴿لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾، فالجُمْلَةُ مَقُولَةٌ لِفِعْلِ ﴿وقالَ اللَّهُ﴾؛ لِأنَّ عَطْفَ البَيانِ تابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ كَمَوْقِعِ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ في قَوْلِ الشّاعِرِ:

أقُولُ لَهُ ارْحَلْ لا تُقِيمَنَّ عِنْدَنا

فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وبِذَلِكَ أُفِيدَ بِالمَنطُوقِ ما أُفِيدَ قَبْلُ بِدَلالَةِ الِاقْتِضاءِ، والضَّمِيرُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ ﴿وقالَ اللَّهُ﴾، أيْ قالَ اللَّهُ إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ، وهَذا جَرْيٌ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ في حِكايَةِ القَوْلِ، وما في مَعْناهُ بِالمَعْنى كَما هُنا، وقَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧] فَـ ﴿أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النحل: ٣٦] مُفَسِّرُ (أمَرْتَنِي)، وفِعْلُ (أمَرْتَنِي) فِيهِ مَعْنى القَوْلِ، واللَّهُ قالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ ورَبَّهم، فَحَكاهُ بِالمَعْنى، فَقالَ: رَبِّي.

والقَصْرُ في قَوْلِهِ ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلى صِفَةٍ، أيِ اللَّهُ مُخْتَصٌّ بِصِفَةِ تَوَحُّدِ الإلَهِيَّةِ، وهو قَصْرُ قَلْبٍ؛ لِإبْطالِ دَعْوى تَثْنِيَةِ الإلَهِ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ مُعْتَرِضَةً واقِعَةً تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ ﴿لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أيْ نَهى اللَّهُ عَنِ اتِّخاذِ إلَهَيْنِ؛ لِأنَّ اللَّهَ واحِدٌ، أيْ واللَّهُ هو مُسَمّى إلَهٍ فاتِّخاذُ إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ.

صفحة ١٧٤

وحَصْرُ صِفَةِ الوَحْدانِيَّةِ في عَلَمِ الجَلالَةِ بِالنَّظَرِ إلى أنَّ مُسَمّى ذَلِكَ العَلَمِ مُساوٍ لِمُسَمّى إلَهٍ، إذِ الإلَهُ مُنْحَصِرٌ في مُسَمّى ذَلِكَ العَلَمِ.

وتَفْرِيعُ ﴿فَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلى جُمْلَةِ ﴿لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ فَيَكُونُ ﴿فَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ مِن مَقُولِ القَوْلِ، ويَكُونُ في ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ مِن قَوْلِهِ فارْهَبُونِ التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلى فِعْلِ (وقالَ اللَّهُ) فَلا يَكُونُ مِن مَقُولِ القَوْلِ، أيْ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ فَلا تَرْهَبُوا غَيْرِي، ولَيْسَ في الكَلامِ التِفاتٌ عَلى هَذا الوَجْهِ.

وتَفَرَّعَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ بِصِيغَةِ القَصْرِ، أيْ قَصْرَ قَلْبٍ إضافِيًّا، أيْ قَصَرَ الرَّهْبَةَ التّامَّةَ مِنهُ عَلَيْهِ فَلا اعْتِدادَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَلى ضُرِّ أحَدٍ، وهو رَدٌّ عَلى الَّذِينَ يَرْهَبُونَ إلَهَ الشَّرِّ فالمَقْصُودُ هو المَرْهُوبُ.

والِاقْتِصارُ عَلى الأمْرِ بِالرَّهْبَةِ وقَصْرُها عَلى كَوْنِها مِنَ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنهُ الأمْرُ بِقَصْرِ الرَّغْبَةِ عَلَيْهِ لِدَلالَةِ قَصْرِ الرَّهْبَةِ عَلى اعْتِقادِ قَصْرِ القُدْرَةِ التّامَّةِ عَلَيْهِ تَعالى فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلى الَّذِينَ يَطْمَعُونَ في إلَهِ الخَيْرِ بِطَرِيقِ الأوْلى، وإنَّما اقْتَصَرَ عَلى الرَّهْبَةِ؛ لِأنَّ شَأْنَ المُزَكِّيَةِ أنْ تَكُونَ عِبادَتُهم عَنْ خَوْفِ إلَهِ الشَّرِّ؛ لِأنَّ إلَهَ الخَيْرِ هم في أمْنٍ مِنهُ فَإنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلى الخَيْرِ.

ووَقَعَ في ضَمِيرِ (فَإيّايَ) التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ لِمُناسَبَةِ انْتِقالِ الكَلامِ مِن تَقْرِيرِ دَلِيلِ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ عَلى وجْهٍ كُلِّيٍّ إلى تَعْيِينِ هَذا الواحِدِ أنَّهُ اللَّهُ مُنَزِّلُ القُرْآنِ تَحْقِيقًا لِتَقْرِيرِ العَقِيدَةِ الأصْلِيَّةِ، وفي هَذا الِالتِفاتِ اهْتِمامٌ بِالرَّهْبَةِ لِما في الِالتِفاتِ مِن هَزِّ فَهْمِ المُخاطَبِينَ، وتَقَدَّمَ تَرْكِيبُ نَظِيرِهِ بِدُونِ التِفاتٍ في سُورَةِ البَقَرَةِ.

واقْتِرانُ فِعْلِ (فارْهَبُونِ) بِالفاءِ؛ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلى تَفْرِيعٍ فَيُفِيدُ مَفادَ التَّأْكِيدِ لِأنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ (ارْهَبُونِ) بِالمَفْعُولِ لَفْظًا يَجْعَلُ الضَّمِيرَ

صفحة ١٧٥

المُنْفَصِلَ المَذْكُورَ قَبْلَهُ في تَقْدِيرِ مَعْمُولٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإيّايَ ارْهَبُوا فارْهَبُونِ، أيْ أمَرْتُكم بِأنْ تَقْصُرُوا رَهْبَتَكم عَلَيَّ فارْهَبُونِ؛ امْتِثالًا لِلْأمْرِ.