﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى جَمِيعِ ما سَبَقَ مِنَ الآياتِ والعِبَرِ والمِنَنِ؛ إذْ قَدِ اسْتَقامَ مِن جَمِيعِها انْفِرادُ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ، ونَفْيُ الشَّرِيكِ فِيما خَلَقَ وأنْعَمَ، وبِالأوْلى نَفْيُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، وأنْ يُشَبَّهَ بِالحَوادِثِ، فَلا جَرَمَ اسْتَتَبَّ لِلْمَقامِ أنْ يُفَرَّعُ عَلى ذَلِكَ زَجْرُ المُشْرِكِينَ عَنْ تَمْثِيلِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ بِاللَّهِ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وأنْ يُمَثِّلُوهُ بِالمَوْجُوداتِ.

وهَذا جاءَ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢]، وقَوْلُهُ ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] .

والأمْثالُ هُنا جَمْعُ مَثَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنى المُماثِلِ، كَقَوْلِهِمْ: شَبَهٌ بِمَعْنى مُشابِهٍ، وضَرْبُ الأمْثالِ شاعَ اسْتِعْمالُهُ في تَشْبِيهِ حالَةٍ بِحالَةٍ، وهَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ، وهو هُنا اسْتِعْمالٌ آخَرُ.

ومَعْنى الضَّرْبِ في قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ كَذا مَثَلًا، بَيَّنّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

واللّامُ في اللَّهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (الأمْثالِ) لا بِـ (تَضْرِبُوا)، إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّهم يَضْرِبُونَ مَثَلَ الأصْنامِ بِاللَّهِ ضَرْبًا لِلنّاسِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] .

صفحة ٢٢٣

ووَجْهُ كَوْنِ الإشْراكِ ضَرْبَ مَثَلٍ لِلَّهِ أنَّهم أثْبَتُوا لِلْأصْنامِ صِفاتَ الإلَهِيَّةِ وشَبَّهُوها بِالخالِقِ، فَإطْلاقُ ضَرْبِ المَثَلِ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هو ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا﴾ [الزخرف: ٥٨]، وقَدْ كانُوا يَقُولُونَ عَنِ الأصْنامِ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، والمَلائِكَةُ هُنَّ بَناتُ اللَّهِ مِن سَرَواتِ الجِنِّ، فَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلٍ وتَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِالحَوادِثِ في التَّأثُّرِ بِشَفاعَةِ الأكْفاءِ والأعْيانِ والِازْدِهاءِ بِالبَنِينَ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَشْبِيهِ اللَّهِ تَعالى بِالحَوادِثِ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ جَهْلَهم هو الَّذِي أوْقَعَهم في تِلْكَ السَّخافاتِ مِنَ العَقائِدِ، وأنَّ اللَّهَ إذْ نَهاهم وزَجَرَهم عَنْ أنْ يُشَبِّهُوهُ بِما شَبَّهُوهُ إنَّما نَهاهم لِعِلْمِهِ بِبُطْلانِ اعْتِقادِهِمْ.

وفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ اسْتِدْعاءٌ لِإعْمالِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ؛ لِيَصِلُوا إلى العِلْمِ البَرِيءِ مِنَ الأوْهامِ.