Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٢٧٤
﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾مَوْقِعُ فاءِ التَّفْرِيعِ هُنا خَفِيٌّ ودَقِيقٌ، ولِذَلِكَ تَصَدّى بَعْضُ حُذّاقِ المُفَسِّرِينَ إلى البَحْثِ عَنْهُ، فَقالَ في الكَشّافِ: لَمّا ذَكَرَ العَمَلَ الصّالِحُ، ووَعَدَ عَلَيْهِ وصَلَ بِهِ قَوْلَهُ تَعالى ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ إيذانًا بِأنَّ الِاسْتِعاذَةَ مِن جُمْلَةِ الأعْمالِ الَّتِي يُجْزَلُ عَلَيْها الثَّوابُ اهـ.
وهُوَ إبْداءُ مُناسَبَةٍ ضَعِيفَةٍ لا تَقْتَضِي تَمَكُّنَ ارْتِباطِ أجْزاءِ النَّظْمِ.
وقالَ فَخْرُ الدِّينِ: لَمّا قالَ ﴿ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] أرْشَدَ إلى العَمَلِ الَّذِي تَخْلُصُ بِهِ الأعْمالُ مِنَ الوَسْواسِ اهـ.
وهُوَ أمْكَنُ مِن كَلامِ الكَشّافِ، وزادَ أبُو السُّعُودِ: لَمّا كانَ مَدارُ الجَزاءِ هو حُسْنَ العَمَلِ؛ رَتَّبَ عَلَيْهِ الإرْشادَ إلى ما بِهِ يَحْسُنُ العَمَلُ الصّالِحُ بِأنْ يَخْلُصَ مِن شَوْبِ الفَسادِ، وفي كَلامَيْهِما مِنَ الوَهَنِ أنَّهُ لا وجْهَ لِتَخْصِيصِ الِاسْتِعاذَةِ بِإرادَةِ قِراءَةِ القُرْآنِ.
وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: الفاءُ في فَإذا واصِلَةٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُها في مِثْلِ هَذا، فَتَكُونُ الفاءُ عَلى هَذا لِمُجَرَّدِ وصْلِ كَلامٍ بِكَلامٍ، واسْتَشْهَدَ لَهُ بِالِاسْتِعْمالِ، والعُهْدَةُ عَلَيْهِ.
وقالَ شَرَفُ الدِّينِ الطَّيْبِيُّ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ مُتَّصِلٌ بِالفاءِ بِما سَبَقَ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩]، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا مَنَّ عَلى النَّبِيءِ ﷺ بِإنْزالِ كِتابٍ جامِعٍ لِصِفاتِ الكَمالِ، وأنَّهُ تِبْيانٌ لِكُلٍّ شَيْءٍ، ونَبَّهَ عَلى أنَّهُ تِبْيانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ بِالكَلِمَةِ الجامِعَةِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ [النحل: ٩٠]
صفحة ٢٧٥
الآيَةَ، وعَطَفَ عَلَيْهِ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١]، وأكَّدَهُ ذَلِكَ التَّأْكِيدَ، قالَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾، أيْ إذا شَرَعْتَ في قِراءَةِ هَذا الكِتابِ الشَّرِيفِ الجامِعِ الَّذِي نَبَّهْتَ عَلى بَعْضِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، ونازَعَكَ فِيهِ الشَّيْطانُ بِهَمْزِهِ ونَفْثِهِ؛ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنهُ، والمَقْصُودُ إرْشادُ الأُمَّةِ اهـ.وهَذا أحْسَنُ الوُجُوهِ، وقَدِ انْقَدَحَ في فِكْرِي قَبْلَ مُطالَعَةِ كَلامِهِ ثُمَّ وجَدْتُهُ في كَلامِهِ فَحَمِدْتُ اللَّهَ، وتَرَحَّمْتُهُ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ فَما بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا﴾ [النحل: ٨٩] إلَخْ، وجُمْلَةِ ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، والمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ الشُّرُوعُ في التَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ.
وإظْهارُ اسْمِ القُرْآنِ دُونَ أنْ يُضْمَرَ لِلْكِتابِ؛ لِأجْلِ بُعْدِ المَعادِ.
والأظْهَرُ أنَّ (قَرَأْتَ) مُسْتَعْمَلٌ في إرادَةِ الفِعْلِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وقَوْلِهِ ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ﴾ [الإسراء: ٣٥] وقَوْلُهُ ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣]، أيْ يُرِيدُونَ العَوْدَ إلى أزْواجِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣] في سُورَةِ المُجادَلَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا﴾ [النساء: ٩] في سُورَةِ النِّساءِ، أيْ أوْشَكُوا أنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وقَوْلِهِ ﴿وإذا سَألْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْألُوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، أيْ إذا أرَدْتُمْ أنْ تَسْألُوهُنَّ، وفي الحَدِيثِ «إذا بايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ» .
وحَمَلَهُ قَلِيلٌ مِنَ العُلَماءِ عَلى الظّاهِرِ مِن وُقُوعِ الفِعْلِ، فَجَعَلُوا إيقاعَ الِاسْتِعاذَةِ بَعْدَ القِراءَةِ، ونُسِبَ إلى مالِكٍ في المَجْمُوعَةِ، والصَّحِيحُ عَنْ مالِكٍ خِلافُهُ، ونُسِبَ إلى النَّخَعِيِّ، وابْنِ سِيرِينَ وداوُدَ الظّاهِرِيِّ، ورُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ.
والباءُ في بِاللَّهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعاذَةِ يُقالُ: عاذَ بِحِصْنٍ، وعاذَ بِالحَرَمِ.
والسِّينُ في ﴿فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ لِلطَّلَبِ، أيْ فاطْلُبِ العَوْذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ، والعَوْذُ: اللَّجَأُ إلى ما يَعْصِمُ، ويَقِي مِن أمْرٍ مُضِرٍّ.
صفحة ٢٧٦
ومَعْنى طَلَبُ العَوْذِ بِاللَّهِ مُحاوَلَةُ العَوْذِ بِهِ، ولا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ في جانِبِ اللَّهِ إلّا بِالدُّعاءِ أنْ يُعِيذَهُ، ومِن أحْسَنِ الِامْتِثالِ مُحاكاةُ صِيغَةِ الأمْرِ فِيما هو مِن قَبِيلِ الأقْوالِ بِحَيْثُ لا يُغَيِّرُ إلّا التَّغْيِيرَ الَّذِي لا مَناصَ مِنهُ فَتَكُونُ مُحاكاةُ لِفْظِ اسْتَعِذْ بِما يَدُلُّ عَلى طَلَبِ العَوْذِ بِأنْ يُقالَ: أسْتُعِيذَ، أوْ: أعُوذُ، فاخْتِيرَ لَفْظُ أعُوذُ؛ لِأنَّهُ مِن صِيَغِ الإنْشاءِ، فَفِيهِ إنْشاءُ الطَّلَبِ لَفْظُ أسْتَعِيذُ فَإنَّهُ أخْفى في إنْشاءِ الطَّلَبِ، عَلى اقْتِداءٍ بِما في الآيَةِ الأُخْرى ﴿وقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ [المؤمنون: ٩٧] وأبْقى ما عَدا ذَلِكَ مِن ألْفاظِ آيَةِ الِاسْتِعاذَةِ عَلى حالِهِ، وهَذا أبْدَعُ الأمْثالِ، فَقَدْ ورَدَ في عَمَلِ النَّبِيءِ ﷺ بِهَذا الأمْرِ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: «أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» يُحاكِي لَفْظَ هَذِهِ الآيَةِ، ولَمْ يَقُلْ في الِاسْتِعاذَةِ ﴿أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ [المؤمنون: ٩٧]؛ لِأنَّ ذَلِكَ في غَيْرِ قِراءَةِ القُرْآنِ، ولَمْ يُحاكِهِ النَّبِيءُ ﷺ في اسْتِعاذَتِهِ لِلْقِراءَةِ.قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيءِ زِيادَةٌ عَلى هَذا اللَّفْظِ، وما يُرْوى مِنَ الزِّياداتِ لَمْ يَصِحَّ مِنهُ شَيْءٌ، وجاءَ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ إذا قامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ أعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ مَن هَمْزِهِ» إلَخْ، فَتِلْكَ اسْتِعاذَةُ تَعَوُّذٍ، ولَيْسَتِ الِاسْتِعاذَةُ لِأجْلِ قِراءَةِ القُرْآنِ.
واسْمُ الشَّيْطانِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى إلى شَيْطانِهِمْ في سُورَةِ البَقَرَةِ، والرَّجِيمِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر: ١٧] في سُورَةِ الحِجْرِ.
والخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، والمُرادُ عُمُومُهُ لِأُمَّتِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ .
وإنَّما شُرِعَتْ الِاسْتِعاذَةُ عِنْدَ ابْتِداءِ القِراءَةِ؛ إيذانًا بِنَفاسَةِ القُرْآنِ ونَزاهَتِهِ؛ إذْ هو نازِلٌ مِنَ العالَمِ القُدْسِيِّ المَلَكِيِّ، فَجَعَلَ افْتِتاحَ قِراءَتَهُ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ النَّقائِصِ النَّفْسانِيَّةِ الَّتِي هي مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، ولا اسْتِطاعَةُ لِلْعَبْدِ أنْ يَدْفَعَ تِلْكَ النَّقائِصَ عَنْ نَفْسِهِ إلّا بِأنْ يَسْألَ اللَّهَ أنْ يُبْعِدَ الشَّيْطانَ عَنْهُ بِأنْ يَعُوذَ بِاللَّهِ؛ لِأنَّ جانِبَ اللَّهِ قُدْسِيٌّ لا تَسَلُكُ الشَّياطِينُ إلى مَن يَأْوِي إلَيْهِ، فَأرْشَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ إلى سُؤالِ
صفحة ٢٧٧
ذَلِكَ وضَمِنَ لَهُ أنْ يُعِيذَهُ مِنهُ، وأنْ يُعِيذَ أُمَّتَهُ عَوْذًا مُناسِبًا، كَما شُرِعَتِ التَّسْمِيَةُ في الأُمُورِ ذَواتِ البالِ، وكَما شُرِعَتِ الطَّهارَةُ لِلصَّلاةِ.وإنَّما لَمْ تُشْرَعْ لِذَلِكَ كَلِمَةُ باسِمِ اللَّهِ؛ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ تَخَلٍّ عَنِ النَّقائِصِ لا مَقامُ اسْتِجْلابِ التَّيَمُّنِ والبَرَكَةِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ نَفْسَهُ يُمْنٌ وبَرَكَةٌ، وكَمالٌ تامٌّ، فالتَّيَمُّنُ حاصِلٌ، وإنَّما يُخْشى الشَّيْطانُ أنْ يَغْشى بَرَكاتِهِ فَيُدْخِلَ فِيها ما يُنْقِصُها، فَإنَّ قِراءَةَ القُرْآنِ عِبارَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى النُّطْقِ بِألْفاظِهِ، والتَّفَهُّمِ لِمَعانِيهِ وكِلاهُما مُعَرَّضٌ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ وسُوسَةً تَتَعَلَّقُ بِألْفاظِهِ مِثْلُ الإنْساءِ؛ لِأنَّ الإنْساءَ يُضِيعُ عَلى القارِئِ ما يَحْتَوِي عَلَيْهِ المِقْدارُ المَنسِيُّ مِن إرْشادٍ، ووَسْوَسَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَعانِيهِ مِثْلُ أنْ يُخْطِئَ فَهْمًا أوْ يَقْلِبَ عَلَيْهِ مُرادًا، وذَلِكَ أشَدُّ مِن وسْوَسَةِ الإنْساءِ، وهَذا المَعْنى يُلائِمُ مَحْمَلَ الأمْرِ بِالِاسْتِعاذَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ.
فَأمّا الَّذِينَ حَمَلُوا تَعَلُّقَ الأمْرِ بِالِاسْتِعاذَةِ أنَّها بَعْدَ الفَراغِ مِنَ القِراءَةِ، فَقالُوا؛ لِأنَّ القارِئَ كانَ في عِبادَةٍ فَرُبَّما دَخَلَهُ عُجْبٌ أوْ رِياءٌ، وهُما مِنَ الشَّيْطانِ؛ فَأُمِرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنهُ لِلسَّلامَةِ مِن تَسْوِيلِهِ ذَلِكَ.
ومَحْمَلُ الأمْرِ في هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ الجُمْهُورِ عَلى النَّدْبِ؛ لِانْتِفاءِ أماراتِ الإيجابِ، فَإنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ بَيَّنَهُ، فَمِنَ العُلَماءِ مَن نَدَبَهُ مُطْلَقًا في الصَّلاةِ، وغَيْرِها عِنْدَ كُلِّ قِراءَةٍ، وجَعَلَ بَعْضُهم جَمِيعَ قِراءَةِ الصَّلاةِ قِراءَةً واحِدَةً تَكْفِي اسْتِعاذَةٌ واحِدَةٌ في أوَّلِها، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ هَؤُلاءِ، ومِنهم مَن جَعَلَ قِراءَةَ كُلِّ رَكْعَةٍ قِراءَةً مُسْتَقِلَّةً.
ومِنَ العُلَماءِ مَن جَعَلَهُ مَندُوبًا لِلْقِراءَةِ في غَيْرِ الصَّلاةِ، وهو قَوْلُ مالِكٍ، وكَرِهَها في قِراءَةِ صَلاةِ الفَرِيضَةِ، وأباحَها بِلا نَدْبٍ في قِراءَةِ صَلاةِ النّافِلَةِ.
ولَعَلَّهُ رَأى أنَّ في الصَّلاةِ كِفايَةً في الحِفْظِ مِنَ الشَّيْطانِ.
وقِيلَ: الأمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَقِيلَ في قِراءَةِ الصَّلاةِ خاصَّةً، ونُسِبَ إلى عَطاءٍ، وقَدْ أطْلَقَ القُرْآنَ عَلى قُرْآنِ الصَّلاةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨] .
صفحة ٢٧٨
وقالَ: الثَّوْرِيُّ بِالوُجُوبِ في قِراءَةِ الصَّلاةِ وغَيْرِها، وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ تَجِبُ الِاسْتِعاذَةُ عِنْدَ القِراءَةِ مَرَّةً في العُمْرِ، وقالَ قَوْمٌ: الوُجُوبُ خاصٌّ بِالنَّبِيءِ ﷺ، والنَّدَبُ لِبَقِيَّةِ أُمَّتِهِ.ومَدارِكُ هَذِهِ الأقْوالِ تَرْجِعُ إلى تَأْوِيلِ الفِعْلِ في قَوْلِهِ تَعالى (قَرَأْتَ)، وتَأْوِيلُ الأمْرِ في قَوْلِهِ تَعالى فاسْتَعِذْ، وتَأْوِيلُ القُرْآنِ مَعَ ما حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فِعْلًا وتَرْكًا.
وعَلى الأقْوالِ كُلِّها: فالِاسْتِعاذَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلشُّرُوعِ في القِراءَةِ، أوْ لِإرادَتِهِ، ولَيْسَتْ مَشْرُوعَةً عِنْدَ كُلِّ تَلَفُّظٍ بِألْفاظِ القُرْآنِ كالنُّطْقِ بِآيَةٍ أوْ آياتٍ مِنَ القُرْآنِ في التَّعْلِيمِ أوِ المَوْعِظَةِ أوْ شِبْهِهِما، خِلافًا لِما يَفْعَلُهُ بَعْضُ المُتَحَذِّقِينَ إذا ساقَ آيَةً مِنَ القُرْآنِ في غَيْرِ مَقامِ القِراءَةِ أنْ يَقُولَ: كَقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، ويَسُوقُ آيَةً.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ﴾ الآيَةَ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالِاسْتِعاذَةِ مِنَ الشَّيْطانِ عِنْدَ إرادَةِ قِراءَةِ القُرْآنِ، وبَيانٌ لِصِفَةِ الِاسْتِعاذَةِ.
فَأمّا كَوْنُها تَعْلِيلًا؛ فَلِزِيادَةِ الحَثِّ عَلى الِامْتِثالِ لِلْأمْرِ بِأنَّ الِاسْتِعاذَةَ تَمْنَعُ تَسَلُّطَ الشَّيْطانِ عَلى المُسْتَعِيذِ؛ لِأنَّ اللَّهَ مَنَعَهُ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا المُتَوَكِّلِينَ، والِاسْتِعاذَةُ مِنهُ شُعْبَةٌ مِن شُعَبِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّجَأ إلَيْهِ تَوَكُّلٌ عَلَيْهِ، وفي الإعْلامِ بِالعِلَّةِ تَنْشِيطٌ لِلْمَأْمُورِ بِالفِعْلِ عَلى الِامْتِثالِ إذْ يَصِيرُ عالِمًا بِالحِكْمَةِ، وأمّا كَوْنُها بَيانًا فَلِما تَضَمَّنَتْهُ مِن ذِكْرِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ الِاسْتِعاذَةَ إعْرابٌ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ لِدَفْعِ الشَّيْطانِ؛ لِيَعْقِدَ المُسْتَعِيذُ نِيَّتَهُ عَلى ذَلِكَ، ولَيْسَتِ الِاسْتِعاذَةُ مُجَرَّدَ قَوْلٍ بِدُونِ اسْتِحْضارِ نِيَّةِ العَوْذِ بِاللَّهِ.
فَجُمْلَةُ ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِلْمَوْصُولِ، وقَدَّمَ المَجْرُورَ عَلى الفِعْلِ لِلْقَصْرِ، أيْ لا يَتَوَكَّلُونَ إلّا عَلى رَبِّهِمْ، وجَعَلَ فِعْلَها مُضارِعًا؛ لِإفادَةِ تَجَدُّدِ التَّوَكُّلِ واسْتِمْرارِهِ، فَنَفْيُ سُلْطانِ الشَّيْطانِ مَشْرُوطٌ بِالأمْرَيْنِ: الإيمانُ، والتَّوَكُّلُ، ومِن هَذا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الإسراء: ٦٥] .
صفحة ٢٧٩
والسُّلْطانُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الغُفْرانِ، وهو التَّسَلُّطُ والتَّصَرُّفُ المَكِينُ.فالمَعْنى أنَّ الإيمانَ مَبْدَأٌ لِتَوْهِينِ سُلْطانِ الشَّيْطانِ في نَفْسِ المُؤْمِنِ، فَإذا انْضَمَّ إلَيْهِ التَّوَكُّلُ عَلى اللَّهِ انْدَفَعَ سُلْطانُ الشَّيْطانِ عَنِ المُؤْمِنَ المُتَوَكِّلِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ قَبْلَها يُثِيرُ سُؤالَ سائِلٍ يَقُولُ: فَسُلْطانُهُ عَلى مَن ؟ .
والقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن (إنَّما) قَصْرٌ إضافِيٌّ بِقَرِينَةِ المُقابَلَةِ، أيْ بِدُونِ (الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فَحَصَلَ بِهِ تَأْكِيدُ جُمْلَةِ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لِزِيادَةِ الِاهْتِمامِ بِتَقْرِيرِ مَضْمُونِها، فَلا يُفْهَمُ مِنَ القَصْرِ أنَّهُ لا سُلْطانَ لَهُ عَلى غَيْرِ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أهْمَلُوا التَّوَكُّلَ، والَّذِينَ انْخَدَعُوا لِبَعْضِ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ.
ومَعْنى يَتَوَلَّوْنَهُ يَتَّخِذُونَهُ ولِيًّا لَهم، وهُمُ المُلازِمُونَ لِلْمِلَلِ المُؤَسَّسَةِ عَلى ما يُخالِفُ الهَدْيَ الإلَهِيَّ عَنْ رَغْبَةٍ فِيها. ولا شَكَّ أنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فَرِيقُ غَيْرِ المُشْرِكِينَ؛ لِأنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي بِظاهِرِهِ المُغايَرَةَ، وهم أصْنافٌ كَثِيرَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ، وإعادَةُ اسْمِ المَوْصُولِ في قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾؛ لِأنَّ وِلايَتَهم لِلشَّيْطانِ أقْوى.
وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ؛ لِلدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ التَّوَلِّي، أيِ الَّذِينَ يُجَدِّدُونَ تَوَلِّيهِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم كُلَّما تَوَلَّوْهُ بِالمَيْلِ إلى طاعَتِهِ تَمَكَّنَ مِنهم سُلْطانُهُ، وأنَّهُ إذا انْقَطَعَ التَّوَلِّي بِالإقْلاعِ أوِ التَّوْبَةِ انْسَلَخَ سُلْطانُهُ عَلَيْهِمْ، وإنَّما عُطِفَ ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ دُونَ إعادَةِ اسْمِ المَوْصُولِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الوَصْفَيْنِ كَصِلَةٍ واحِدَةٍ لِمَوْصُولٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ اجْتِماعُ الصِّلَتَيْنِ.
والباءُ في ﴿بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ عائِدٌ إلى الشَّيْطانِ، أيْ صارُوا مُشْرِكِينَ بِسَبَبِهِ، ولَيْسَتْ هي كالباءِ في قَوْلِهِ تَعالى﴿وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ [الأعراف: ٣٣] .
صفحة ٢٨٠
وجُعِلَتِ الصِّلَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً؛ لِدَلالَتِها عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ؛ لِأنَّ الإشْراكَ صِفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ؛ لِأنَّ قَرارَها القَلْبُ بِخِلافِ المَعاصِي؛ لِأنَّ مَظاهِرَها الجَوارِحُ، لِلْإشارَةِ إلى أنَّ سُلْطانَ الشَّيْطانِ عَلى المُشْرِكِينَ أشُدُّ وأدْوَمُ؛ لِأنَّ سَبَبَهُ ثابِتٌ ودائِمٌ.وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في ﴿بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ لِإفادَةِ الحَصْرِ، أيْ ما أشْرَكُوا إلّا بِسَبَبِهِ، رَدًّا عَلَيْهِمْ إذْ يَقُولُونَ ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] وقَوْلُهم ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [النحل: ٣٥] وقَوْلُهم ﴿وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها﴾ [الأعراف: ٢٨] .