صفحة ٢٩٦

﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ؛ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَها، وإشارَةُ ذَلِكَ إلى مَضْمُونِ قَوْلِهِ ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦] .

وضَمِيرُ (بِأنَّهم) عائِدٌ إلى مَن كَفَرَ بِاللَّهِ سَواءٌ كانَ ماصَدَقُ (مَن) مُعَيَّنًا أوْ مَفْرُوضًا عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ السّابِقَيْنِ.

والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَمَدْخُولُها سَبَبٌ.

و(اسْتَحَبُّوا) مُبالَغَةٌ في (أحَبُّوا) مِثْلَ اسْتَأْخَرَ واسْتَكانَ، وضَمَّنَ (اسْتَحَبُّوا) مَعْنى (فَضَّلُوا) بِحَرْفِ (عَلى)، أيْ لِأنَّهم قَدَّمُوا نَفْعَ الدُّنْيا عَلى نَفْعِ الآخِرَةِ؛ لِأنَّهم قَدِ اسْتَقَرَّ في قُلُوبِهِمْ أحَقِّيَّةُ الإسْلامِ، وما رَجَعُوا عَنْهُ إلّا خَوْفَ الفِتْنَةِ، أوْ رَغْبَةً في رَفاهِيَةِ العَيْشِ، فَيَكُونُ كُفْرُهم أشَدَّ مَن كُفْرِ المُسْتَصْحِبِينَ لِلْكُفْرِ مِن قَبْلِ البَعْثَةِ.

﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ سَبَبٌ ثانٍ لِلْغَضَبِ والعَذابِ، أيْ وبِأنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الهِدايَةَ فَهم مُوافُونَهُ عَلى الكُفْرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ [النحل: ١٠٤] .

وهُوَ تَذْيِيلٌ لِما في صِيغَةِ القَوْمِ الكافِرِينَ مِنَ العُمُومِ الشّامِلِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهم وغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ، ولَكِنَّهُ عُمُومٌ بَعْدَ خُصُوصٍ.

وإقْحامُ لَفْظِ (قَوْمَ) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ مَن كانَ هَذا شَأْنُهم فَقَدْ عُرِفُوا بِهِ، وتَمَكَّنَ مِنهم، وصارَ سَجِيَّةً حَتّى كَأنَّهم يَجْمَعُهم هَذا الوَصْفُ.

وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ جَرَيانَ وصْفٍ أوْ خَبَرٍ عَلى لَفْظِ (قَوْمَ) يُؤْذِنُ بِأنَّهُ مِن مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: ١٢] في سُورَةِ

صفحة ٢٩٧

البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١] في سُورَةِ يُونُسَ.