﴿ولَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وكِيلًا﴾ ﴿إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾

هَذا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ﴾ [الإسراء: ٨٢] الآيَةَ أفْضَتْ إلَيْهِ المُناسَبَةُ فَإنَّهُ لَمّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] تَلْقِينَ كَلِمَةِ عِلْمٍ جامِعَةٍ، وتَضَمَّنَ أنَّ الأُمَّةَ أُوتِيَتْ عِلْمًا ومُنِعَتْ عِلْمًا، وأنَّ عِلْمَ النُّبُوءَةِ مِن أعْظَمِ ما أُوتِيَتْهُ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ إلى الشُّكْرِ عَلى نِعْمَةِ العِلْمِ؛ دَفْعًا لِغُرُورِ النَّفْسِ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِالأشْياءِ يُكْسِبُها إعْجابًا بِتَمَيُّزِها عَمَّنْ دُونَها فِيهِ، فَأُوقِظَتْ إلى أنَّ الَّذِي مَنَحَ العِلْمَ قادِرٌ عَلى سَلْبِهِ، وخُوطِبَ بِذَلِكَ النَّبِيءُ ﷺ؛ لِأنَّ عِلْمَهُ أعْظَمُ عِلْمٍ، فَإذا كانَ وُجُودُ عِلْمِهِ خاضِعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَما الظَّنُّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ ؟ تَعْرِيضًا لِبَقِيَّةِ العُلَماءِ، فالكَلامُ صَرِيحُهُ تَحْذِيرٌ، وهو كِنايَةٌ عَنِ

صفحة ٢٠١

الِامْتِنانِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ وتَعْرِيضٌ بِتَحْذِيرِ أهْلِ العِلْمِ، واللّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ المَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ، وجُمْلَةُ ﴿لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ جَوابُ القَسَمِ، وهو دَلِيلُ جَوابِ الشَّرْطِ ومُغْنٍ عَنْهُ.

و﴿لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا﴾ بِمَعْنى لَنُذْهِبَنَّهُ، أيْ عَنْكَ، وهو أبْلَغُ مِن (نُذْهِبُهُ) كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١]، وماصَدَقَ المَوْصُولِ القُرْآنُ.

و(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ؛ لِأنَّ نَفْيَ الطَّمَعِ في اسْتِرْجاعِ المَسْلُوبِ أشَدُّ عَلى النَّفْسِ مِن سَلْبِهِ، فَذِكْرُهُ أدْخَلُ في التَّنْبِيهِ عَلى الشُّكْرِ والتَّحْذِيرِ مِنَ الغُرُورِ.

والوَكِيلُ: مَن يُوكَلُ إلَيْهِ المُهِمُّ، والمُرادُ بِهِ هُنا المُدافِعُ عَنْكَ والشَّفِيعُ لَكُ، ولِما فِيهِ مِن مَعْنى الغَلَبَةِ عُدِّيَ بِـ (عَلى)، ولِما فِيهِ مِن مَعْنى التَّعَهُّدِ والمُطالَبَةِ عُدِّيَ إلى المَرْدُودِ بِالباءِ، أيْ مُتَعَهِّدًا بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ، ومَعْنى التَّعَهُّدِ بِهِ: التَّعَهُّدُ بِاسْتِرْجاعِهِ؛ لِأنَّهُ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ ﴿لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾، ولِأنَّ التَّعَهُّدَ لا يَكُونُ بِذاتِ شَيْءٍ، بَلْ بِحالٍ مِن أحْوالِهِ فَجَرى الكَلامُ عَلى الإيجازِ.

وذَكَرَ هُنا ”وكَيْلًا“ وفي الآيَةِ قَبْلَها ”نَصِيرًا“؛ لِأنَّ مَعْنى هَذِهِ عَلى فَرْضِ سَلْبِ نِعْمَةِ الِاصْطِفاءِ، فالمُطالَبَةُ بِإرْجاعِ النِّعْمَةِ شَفاعَةٌ، ووَكالَةٌ عَنْهُ، وأمّا الآيَةُ قَبْلَها فَهي في فَرْضِ إلْحاقِ عُقُوبَةٍ بِهِ، فَمُدافِعَةُ تِلْكَ العُقُوبَةِ أوِ الثَّأْرِ بِها نَصْرٌ، والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ ﴿إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ مُنْقَطِعٌ، فَحَرْفُ الِاسْتِثْناءِ فِيهِ بِمَعْنى الِاسْتِدْراكِ، وهو اسْتِدْراكٌ عَلى ما اقْتَضاهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِن تَوَقُّعِ ذَلِكَ، أيْ

صفحة ٢٠٢

لَكِنَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ نَفَتْ مَشِيئَةَ الذَّهابِ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ، فَهو باقٍ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ.

وهَذا إيماءٌ إلى بَقاءِ القُرْآنِ وحِفْظِهِ، قالَ تَعالى ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .

ومَوْقِعُ ﴿إنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، أيْ لَكِنَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ مَنَعَتْ تَعَلُّقَ المَشِيئَةِ بِإذْهابِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ؛ لِأنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فَلا يَحْرِمُكَ فَضْلَ الَّذِي أوْحاهُ إلَيْكَ، وزِيادَةُ فِعْلِ (كانَ) لِتَوْكِيدِ الجُمْلَةِ زِيادَةٌ عَلى تَوْكِيدِها بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ المُسْتَعْمَلِ في مَعْنى التَّعْلِيلِ والتَّفْرِيعِ.