صفحة ٢٥٩

﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَلَهُ أسْلِمُوا﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] . والأُمَّةُ: أهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ اشْتَرَكُوا في اتِّباعِهِ. والمُرادُ: أنَّ المُسْلِمِينَ لَهم مَنسَكٌ واحِدٌ وهو البَيْتُ العَتِيقُ كَما تَقَدَّمَ. والمَقْصُودُ مِن هَذا الرَّدُّ عَلى المُشْرِكِينَ إذْ جَعَلُوا لِأصْنامِهِمْ مَناسِكَ تُشابِهُ مَناسِكَ الحَجِّ وجَعَلُوا لَها مَواقِيتَ ومَذابِحَ مِثْلَ الغَبْغَبِ مَنحَرِ العُزّى. فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ ما جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ إلّا مَنسَكًا واحِدًا لِلْقُرْبانِ إلى اللَّهِ تَعالى الَّذِي رَزَقَ النّاسَ الأنْعامَ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ مِنها فَلا يَحِقُّ أنْ يُجْعَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنسَكٌ لِأنَّ ما لا يَخْلُقُ الأنْعامَ المُقَرَّبَ بِها ولا يَرْزُقُها النّاسَ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُجْعَلَ لَهُ مَنسَكٌ لِقُرْبانِها فَلا تَتَعَدَّدُ المَناسِكَ. فالتَّنْكِيرُ في قَوْلِهِ ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ وأدَلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ ﴿فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ . والكَلامُ يُفِيدُ الِاقْتِداءَ بِبَقِيَّةِ الأُمَمِ أهْلِ الأدْيانِ الحَقِّ. و(عَلى) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ مُتَعَلِّقَةً بِـ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ مُضافٍ بَعْدَ (عَلى) تَقْدِيرُهُ ”إهْداءِ ما رَزَقَهم“ أيْ عِنْدَ إهْداءِ ما رَزَقَهم، يَعْنِي ونَحْرَها أوْ ذَبْحَها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (عَلى) بِمَعْنى: لامِ التَّعْلِيلِ، والمَعْنى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ لِأجْلِ ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ.

صفحة ٢٦٠

وقَدْ فُرِّعَ عَلى هَذا الِانْفِرادُ بِالإلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ ﴿فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَلَهُ أسْلِمُوا﴾ أيْ إذْ كانَ قَدْ جَعَلَ لَكم مَنسَكًا واحِدًا فَقَدْ نَبَّهَكم بِذَلِكَ أنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ، ولَوْ كانَتْ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ لَكانَتْ شَرائِعُها مُخْتَلِفَةً. وهَذا التَّفْرِيعُ الأوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي عَقِبَهُ وهو المَقْصُودُ، فَوَقَعَ في النَّظْمِ تَغْيِيرٌ بِتَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ. وأصْلُ النَّظْمِ: فَلِلَّهِ أسْلِمُوا؛ لِأنَّ إلَهَكم إلَهٌ واحِدٌ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في ﴿فَلَهُ أسْلِمُوا﴾ لِلْحَصْرِ، أيْ أسْلِمُوا لَهُ لا لِغَيْرِهِ. والإسْلامُ: الِانْقِيادُ التّامُّ، وهو الإخْلاصُ في الطّاعَةِ، أيْ لا تُخْلِصُوا إلّا لِلَّهِ، أيْ فاتْرُكُوا جَمِيعَ المَناسِكِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلا تَنْسُكُوا إلّا في المَنسَكِ الَّذِي جَعَلَهُ لَكم، تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ (مَنسَكًا) بِفَتْحِ السِّينِ وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِكَسْرِ السِّينِ. وهو عَلى القِراءَتَيْنِ اسْمُ مَكانٍ لِلنُّسُكِ، وهو الذَّبْحُ. إلّا أنَّهُ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ جارٍ عَلى القِياسِ لِأنَّ قِياسَهُ الفَتْحُ في اسْمِ المَكانِ إذْ هو مِن نَسَكَ يَنْسُكُ بِضَمِّ العَيْنِ في المُضارِعِ. وأمّا عَلى قِراءَةِ الكَسْرِ فَهو سَماعِيٌّ مِثْلُ مَسْجِدٍ مِن سَجَدَ يَسْجُدُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: ويُشْبِهُ أنَّ الكِسائِيَّ سَمِعَهُ مِنَ العَرَبِ.