Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ﴾
الجِهادُ بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ في قِتالِ أعْداءِ المُسْلِمِينَ في الدِّينِ لِأجْلِ إعْلاءِ كَلِمَةِ الإسْلامِ أوْ لِلدَّفْعِ عَنْهُ كَما فَسَّرَهُ النَّبِيءُ ﷺ «مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ» . وأنَّ ما رُوِيَ «عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ حِينَ قَفَلَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ قالَ لِأصْحابِهِ رَجَعْنا مِنَ الجِهادِ الأصْغَرِ إلى الجِهادِ الأكْبَرِ»، وفَسَّرَهُ لَهم بِمُجاهَدَةِ العَبْدِ هَواهُ، فَذَلِكَ
صفحة ٣٤٨
مَحْمُولٌ عَلى المُشاكَلَةِ بِإطْلاقِ الجِهادِ عَلى مَنعِ داعِي النَّفْسِ إلى المَعْصِيَةِ. ومَعْنى (في) التَّعْلِيلُ، أيْ لِأجْلِ اللَّهِ، أيْ لِأجْلِ نَصْرِ دِينِهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ في هِرَّةٍ أيْ لِأجْلِ هِرَّةٍ أيْ لِعَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِرَّةٍ كَما بَيِّنَهُ بِقَوْلِهِ حَبَسَتْها لا هي أطْعَمَتْها ولا هي أرْسَلَتْها تُرَمِّمُ مِن خَشاشِ الأرْضِ حَتّى ماتَتْ هَزْلًا» .وانْتَصَبَ ﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ المُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إلى المَوْصُوفِ، وأصْلُهُ: جِهادَهُ الحَقَّ، وإضافَةُ جِهادٍ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ لِأدْنى مُلابَسَةٍ، أيْ حَقَّ الجِهادِ لِأجْلِهِ، وقَرِينَةُ المُرادِ تَقَدُّمُ حَرْفِ (في) كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] .
والحَقُّ بِمَعْنى الخالِصِ، أيِ الجِهادُ الَّذِي لا يَشُوبُهُ تَقْصِيرٌ.
والآيَةُ أمْرٌ بِالجِهادِ. ولَعَلَّها أوَّلُ آيَةٍ جاءَتْ في الأمْرِ بِالجِهادِ لِأنَّ السُّورَةَ بَعْضَها مَكِّيٌّ وبَعْضَها مَدَنِيٌّ، ولِأنَّهُ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ [الحج: ٦٠] . فَهَذا الآنَ أمْرٌ بِالأخْذِ في وسائِلِ النَّصْرِ، فالآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ وقْعَةِ بِدْرٍ لا مَحالَةَ.
* * *
صفحة ٣٤٩
﴿هو اجْتَباكم وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ هو سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي هَذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكم وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾جُمْلَةُ ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ إنْ حُمِلَتْ عَلى أنَّها واقِعَةٌ مَوْقِعَ العِلَّةِ لِما أُمِرُوا بِهِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ [الحج: ٧٧] إلَخْ، أيْ لِأنَّهُ لَمّا اجْتَباكم، كانَ حَقِيقًا بِالشُّكْرِ لَهُ بِتِلْكَ الخِصالِ المَأْمُورِ بِها.
والِاجْتِباءُ: الِاصْطِفاءُ والِاخْتِبارُ، أيْ هو اخْتارَكم لِتَلَقِّي دِينِهِ ونَشْرِهِ ونَصْرِهِ عَلى مُعانِدِيهِ. فَيَظْهَرُ أنَّ هَذا مُوَجَّهٌ لِأصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أصالَةً ويَشْرِكُهم فِيهِ كُلُّ مَن جاءَ بِعْدَهم بِحُكْمِ اتِّحادِ الوَصْفِ في الأجْيالِ كَما هو الشَّأْنُ في مُخاطِباتِ التَّشْرِيعِ. وإنْ حُمِلَ قَوْلُهُ ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ عَلى مَعْنى التَّفْضِيلِ عَلى الأُمَمِ كانَ مَلْحُوظًا فِيهِ تَفْضِيلُ مَجْمُوعِ الأُمَّةِ عَلى مَجْمُوعِ الأُمَمِ السّابِقَةِ الرّاجِعِ إلى تَفْضِيلِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى الطَّبَقَةِ المُماثِلَةِ لَها مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَيْنِ المَحْمَلَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] .
وأُعْقِبَ ذَلِكَ بِتَفْضِيلِ هَذا الدِّينِ المُسْتَتْبِعِ تَفْضِيلَ أهْلِهِ بِأنْ جَعَلَهُ دِينًا لا حَرَجَ فِيهِ لِأنَّ ذَلِكَ يُسَهِّلُ العَمَلَ بِهِ مَعَ حُصُولِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ العَمَلِ فَيَسْعَدُ أهْلُهُ بِسُهُولَةِ امْتِثالِهِ. وقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعالى بِهَذا المَعْنى في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى
صفحة ٣٥٠
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] . ووَصْفُهُ الدِّينَ بِالحَنِيفِ، وقالَ النَّبِيءُ ﷺ: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» .والحَرَجُ: الضِّيقُ، أُطْلِقَ عَلى عُسْرِ الأفْعالِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ ثُمَّ شاعَ ذَلِكَ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً كَما هُنا.
والمِلَّةُ: الدِّينُ والشَّرِيعَةُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٣] في سُورَةِ النَّحْلِ. وقَوْلِهِ ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي﴾ [يوسف: ٣٨] في سُورَةِ يُوسُفَ.
وقَوْلُهُ ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ زِيادَةٌ في التَّنْوِيهِ بِهَذا الدِّينِ وتَحْضِيضٌ عَلى الأخْذِ بِهِ لِأنَّهُ اخْتُصَّ بِأنَّهُ دِينٌ جاءَ بِهِ رَسُولانِ إبْراهِيمُ ومُحَمَّدٌ ﷺ وهَذا لَمْ يَسْتَتِبَّ لِدِينٍ آخَرَ، وهو مَعْنى قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «أنا دَعْوَةُ أبِي إبْراهِيمَ» أيْ بِقَوْلِهِ ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] . وإذا قَدْ كانَ هَذا هو المَقْصُودُ فَمَحْمَلُ الكَلامِ أنَّ هَذا الدِّينَ دِينُ إبْراهِيمَ، أيْ أنَّ الإسْلامَ احْتَوى عَلى دِينِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ومَعْلُومٌ أنَّ لِلْإسْلامِ أحْكامًا كَثِيرَةً ولَكِنَّهُ اشْتَمَلَ عَلى ما لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الشَّرائِعَ الأُخْرى مِن دِينِ إبْراهِيمَ، جُعِلَ كَأنَّهُ عَيْنُ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَعَلى هَذا الِاعْتِبارِ يَكُونُ انْتِصابُ ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ عَلى الحالِ مِنَ (الدِّينِ) بِاعْتِبارِ أنَّ الإسْلامَ حَوى مِلَّةَ إبْراهِيمَ.
ثُمَّ إنْ كانَ الخِطابُ مُوَجَّهًا إلى الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيءَ ﷺ فَإضافَةُ أُبُوَّةِ إبْراهِيمَ إلَيْهِمْ بِاعْتِبارِ غالِبِ الأُمَّةِ، لِأنَّ غالِبَ الأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ مِنَ العَرَبِ المُضَرِيَّةِ وأمّا الأنْصارُ فَإنَّ نَسَبَهم لا يَنْتَمِي إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأنَّهم مِنَ العَرَبِ القَحْطانِيِّينَ؛ عَلى أنَّ أكْثَرَهم كانَتْ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِمْ وِلادَةٌ مِن قِبَلِ الأُمَّهاتِ.
صفحة ٣٥١
وإنْ كانَ الخِطابُ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ كانَتْ إضافَةُ أُبُوَّةِ إبْراهِيمَ لَهم عَلى مَعْنى التَّشْبِيهِ في الحُرْمَةِ واسْتِحْقاقِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٦]، ولِأنَّهُ أبُو النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ ومُحَمَّدٌ لَهُ مَقامُ الأُبُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٦] بِزِيادَةِ وهو أبُوهم.ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْظِيمِ كَأنَّهُ قالَ: مِلَّةَ أبِيكَ إبْراهِيمَ.
والضَّمِيرُ في ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ﴾ عائِدٌ إلى الجَلالَةِ كَضَمِيرِ ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ فَتَكُونُ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا ثانِيًا، أيْ هو اجْتَباكم وخَصَّكم بِهَذا الِاسْمِ الجَلِيلِ فَلَمْ يُعْطِهِ غَيْرَكم ولا يَعُودُ إلى إبْراهِيمَ. و(قَبْلُ) إذا بُنِيَ عَلى الضَّمِّ كانَ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ إلَيْهِ مَنَوِيٍّ بِمَعْناهُ دُونَ لَفْظِهِ. والِاسْمُ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ (قَبْلُ) مَحْذُوفٌ. وبُنِيَ (قَبْلُ) عَلى الضَّمِّ إشْعارًا بِالمُضافِ إلَيْهِ. والتَّقْدِيرُ: مِن قَبْلِ القُرْآنِ. والقَرِينَةُ قَوْلُهُ (وفي هَذا)، أيْ وفي هَذا القُرْآنِ.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ (وفي هَذا) إلى القُرْآنِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِن قَبْلِ هَذا أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤]، أيْ وسَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ في القُرْآنِ. وذَلِكَ في نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤] وقَوْلِهِ ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: ١٢] .
واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ﴿ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ [الحج: ٧٧] أوْ بِقَوْلِهِ ”اجْتَباكم“ أيْ لِيَكُونَ الرَّسُولُ، أيْ مُحَمَّدٌ ﷺ شَهِيدًا عَلى الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ بِأنَّها آمَنَتْ بِهِ، وتَكُونُ الأُمَّةُ الإسْلامِيَّةُ شاهِدَةً عَلى النّاسِ، أيْ عَلى الأُمَمِ بِأنَّ
صفحة ٣٥٢
رُسُلَهم بَلَّغُوهُمُ الدَّعْوَةَ فَكَفَرَ بِهِمُ الكافِرُونَ. ومِن جُمْلَةِ النّاسِ القَوْمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ .وقُدِّمَتْ شَهادَةُ الرَّسُولِ لِلْأُمَّةِ هُنا، وقُدِّمَتْ شَهادَةُ الأُمَّةِ في آيَةِ البَقَرَةِ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] لِأنَّ آيَةَ هَذِهِ السُّورَةِ في مَقامِ التَّنْوِيهِ بِالدِّينِ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فالرَّسُولُ هُنا أسْبَقُ إلى الحُضُورِ فَكانَ ذِكْرُ شَهادَتِهِ أهَمَّ، وآيَةُ البَقَرَةِ صُدِّرَتْ بِالثَّناءِ عَلى الأُمَّةِ فَكانَ ذِكْرُ شَهادَةِ الأُمَّةِ أهَمَّ.
* * *
﴿فَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هو مَوْلاكم فَنِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ وما بَعْدَها، أيْ فاشْكُرُوا اللَّهَ بِالدَّوامِ عَلى إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والِاعْتِصامِ بِاللَّهِ.
والِاعْتِصامُ: افْتِعالٌ مِنَ العَصْمِ. وهو المَنعُ مِنَ الضُّرِّ والنَّجاةُ، قالَ تَعالى ﴿قالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ قالَ لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [هود: ٤٣]، وقالَ النّابِغَةُ:
يَظَلُّ مِن خَوْفِهِ المَلّاحُ مُعْتَصِمًا بِالخَيْزُرانَةِ بَعْدَ الأيْنِ والنَّجَدِ
والمَعْنى: اجْعَلُوا إلى اللَّهِ مَلْجَأكم ومَنجاكم. وجُمْلَةُ ﴿هُوَ مَوْلاكُمْ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعَلِّلَةٌ لِلْأمْرِ بِالِاعْتِصامِ بِاللَّهِ لِأنَّ المَوْلى يُعْتَصَمُ بِهِ ويُرْجَعُ إلَيْهِ لِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وبَدِيعِ حِكْمَتِهِ.والمَوْلى: السَّيِّدُ الَّذِي يُراعِي صَلاحَ عَبْدِهِ.
صفحة ٣٥٣
وفُرِّعَ عَلَيْهِ إنْشاءُ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ بِأنَّهُ أحْسَنُ مَوْلًى وأحْسَنُ نَصِيرٍ. أيْ نِعْمَ المُدَبِّرُ لِشُئُونِكم، ونِعْمَ النّاصِرُ لَكم. ونَصِيرٌ: صِيغَةُ مُبالَغَةٍ في النَّصْرِ. أيْ نِعْمَ المَوْلى لَكم ونِعْمَ النَّصِيرُ لَكم. وأمّا الكافِرُونَ فَلا يَتَوَلّاهم تَوَلِّي العِنايَةِ ولا يَنْصُرُهم.وهَذا الإنْشاءُ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيقَ حُسْنِ وِلايَةِ اللَّهِ تَعالى وحُسْنِ نَصْرِهِ. وبِذَلِكَ الِاعْتِبارِ حَسُنَ تَفْرِيعُهُ عَلى الأمْرِ بِالِاعْتِصامِ بِهِ.
وهَذا مِن بَراعَةِ الخِتامِ. كَما هو بَيِّنٌ لِذَوِي الأفْهامِ.
* * *
صفحة ٥
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.سُورَةُ المُؤْمِنِينَ.
ويُقالُ: (سُورَةُ المُؤْمِنُونَ) .
فالأوَّلُ عَلى اعْتِبارِ إضافَةِ السُّورَةِ إلى المُؤْمِنِينَ لِافْتِتاحِها بِالإخْبارِ عَنْهم بِأنَّهم أفْلَحُوا. ووَرَدَتْ تَسْمِيَتُها بِمِثْلِ هَذا فِيما رَواهُ النَّسائِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السّائِبِ قالَ: «حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ الفَتْحِ فَصَلّى في قِبَلِ الكَعْبَةِ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُما عَنْ يَسارِهِ فافْتَتَحَ سُورَةَ المُؤْمِنِينَ فَلَمّا جاءَ ذِكْرُ مُوسى أوْ عِيسى أخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» .
والثّانِي عَلى حِكايَةِ لَفْظِ (المُؤْمِنُونَ) الواقِعِ أوَّلَها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ١] فَجُعِلَ ذَلِكَ اللَّفْظُ تَعْرِيفًا لِلسُّورَةِ.
وقَدْ ورَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةُ المُؤْمِنِينَ) في السُّنَّةِ. رَوى أبُو داوُدَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السّائِبِ قالَ: «صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فاسْتَفْتَحَ سُورَةَ المُؤْمِنِينَ حَتّى إذا جاءَ ذِكْرُ مُوسى وهارُونَ أوْ ذِكْرُ مُوسى وعِيسى أخَذَتِ النَّبِيءَ سَعْلَةٌ فَحَذَفَ فَرَكَعَ» .
ومِمّا جَرى عَلى الألْسِنَةِ أنْ يُسَمُّوها سُورَةَ (قَدْ أفْلَحَ) . ووَقَعَ ذَلِكَ في كِتابِ الجامِعِ مِنَ العُتْبِيَّةِ في سَماعِ ابْنِ القاسِمِ. قالَ ابْنُ القاسِمِ: أخْرَجَ لَنا مالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ فَتَحَدَّثْنا أنَّهُ كَتَبَهُ عَلى عَهْدِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وغاشِيَتُهُ مِن كِسْوَةِ الكَعْبَةِ فَوَجَدْنا. . إلى أنْ قالَ. . وفي (قَدْ أفْلَحَ) كُلِّها الثَّلاثِ لِلَّهِ أيْ: خِلافًا لِقِراءَةِ: (سَيَقُولُونَ اللَّهُ) . ويُسَمُّونَها أيْضًا (سُورَةَ الفَلاحِ) .
وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ. ولا اعْتِدادَ بِتَوَقُّفِ مَن تَوَقَّفَ في ذَلِكَ بِأنَّ الآيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيها الزَّكاةُ وهي قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٤] تُعَيِّنَ أنَّها
صفحة ٦
مَدَنِيَّةٌ؛ لِأنَّ الزَّكاةَ فُرِضَتْ في المَدِينَةِ. فالزَّكاةُ المَذْكُورَةُ فِيها هي: الصَّدَقَةُ لا زَكاةَ النُّصُبِ المُعَيَّنَةِ في الأمْوالِ. وإطْلاقُ الزَّكاةِ عَلى الصَّدَقَةِ مَشْهُورٌ في القُرْآنِ. قالَ تَعالى: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [فصلت: ٦] وهي مِن سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ بِالِاتِّفاقِ، وقالَ: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إسْماعِيلَ إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤] ﴿وكانَ يَأْمُرُ أهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مريم: ٥٥] ولَمْ تَكُنْ زَكاةُ النُّصُبِ مَشْرُوعَةً في زَمَنِ إسْماعِيلَ.وهِيَ السُّورَةُ السّادِسَةُ والسَّبْعُونَ في عِدادِ نُزُولِ سُوَرِ القُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ (الطُّورِ) وقَبْلَ سُورَةِ ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١] .
وآياتُها مِائَةٌ وسَبْعَ عَشْرَةَ في عَدِّ الجُمْهُورِ. وعَدَّها أهْلُ الكُوفَةِ مِائَةً وثَمانِ عَشْرَةَ، فالجُمْهُورُ عَدُّوا ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠] آيَةً، وأهْلُ الكُوفَةِ عَدُّوا ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوارِثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠] آيَةً وما بَعْدَها آيَةً أُخْرى، كَما يُؤْخَذُ مِن كَلامِ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ في العارِضَةِ في الحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ عَقِبَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠] .
* * *
هَذِهِ السُّورَةُ تَدُورُ آيُها حَوْلَ مِحْوَرِ تَحْقِيقِ الوَحْدانِيَّةِ وإبْطالِ الشِّرْكِ ونَقْضِ قَواعِدِهِ، والتَّنْوِيهِ بِالإيمانِ وشَرائِعِهِ.فَكانَ افْتِتاحُها بِالبِشارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالفَلاحِ العَظِيمِ عَلى ما تَحَلَّوْا بِهِ مِن أُصُولِ الفَضائِلِ الرُّوحِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ الَّتِي بِها تَزْكِيَةُ النَّفْسِ واسْتِقامَةُ السُّلُوكِ.
وأعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ خَلْقِ الإنْسانِ أصْلِهِ ونَسْلِهِ الدّالِّ عَلى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ لِتَفَرُّدِهِ بِخَلْقِ الإنْسانِ ونَشْأتِهِ لِيَبْتَدِئَ النّاظِرُ بِالِاعْتِبارِ في تَكْوِينِ ذاتِهِ ثُمَّ بِعَدَمِهِ بَعْدَ الحَياةِ. ودَلالَةِ ذَلِكَ الخَلْقِ عَلى إثْباتِ البَعْثِ بَعْدَ المَماتِ وأنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الخَلْقَ سُدًى ولَعِبًا.
وانْتَقَلَ إلى الِاعْتِبارِ بِخَلْقِ السَّماواتِ ودَلالَتِهِ عَلى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى.
صفحة ٧
وإلى الِاعْتِبارِ والِامْتِنانِ بِمَصْنُوعاتِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي أصْلُها الماءُ الَّذِي بِهِ حَياةُ ما في هَذا العالَمِ مِنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ وما في ذَلِكَ مِن دَقائِقِ الصُّنْعِ، وما في الأنْعامِ مِنَ المَنافِعِ ومِنها الحَمْلُ.ومِن تَسْخِيرِ المَنافِعِ لِلنّاسِ وما أُوتِيَهُ الإنْسانُ مِن آلاتِ الفِكْرِ والنَّظَرِ.
ووَرَدَ ذِكْرُ الحَمْلِ عَلى الفُلْكِ فَكانَ مِنهُ تَخَلُّصٌ إلى بِعْثَةِ نُوحٍ وحَدَثِ الطُّوفانِ.
وانْتَقَلَ إلى التَّذْكِيرِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلْهُدى والإرْشادِ إلى التَّوْحِيدِ والعَمَلِ الصّالِحِ، وما تَلَقّاها بِهِ أقْوامُهم مِنَ الإعْراضِ والطَّعْنِ والتَّفَرُّقِ، وما كانَ مِن عِقابِ المُكَذِّبِينَ، وتِلْكَ أمْثالٌ لِمَوْعِظَةِ المُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأعْقَبَ ذَلِكَ بِالثَّناءِ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا واتَّقَوْا.
وبِتَنْبِيهِ المُشْرِكِينَ عَلى أنَّ حالَهم مُماثِلٌ لِأحْوالِ الأُمَمِ الغابِرَةِ وكَلِمَتَهم واحِدَةٌ فَهم عُرْضَةٌ لِأنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ المُكَذِّبَةِ.
وقَدْ أراهُمُ اللَّهُ مَخائِلَ العَذابِ لَعَلَّهم يُقْلِعُونَ عَنِ العِنادِ فَأصَرُّوا عَلى إشْراكِهِمْ بِما ألْقى الشَّيْطانُ في عُقُولِهِمْ.
وذُكِّرُوا بِأنَّهم يُقِرُّونَ إذا سُئِلُوا بِأنَّ اللَّهَ مُفْرَدٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ ولا يُجْرُونَ عَلى مُقْتَضى إقْرارِهِمْ أنَّهم سَيَنْدَمُونَ عَلى الكُفْرِ عِنْدَما يَحْضُرُهُمُ المَوْتُ وفي يَوْمِ القِيامَةِ.
وبِأنَّهم عَرَفُوا الرَّسُولَ وخَبَرُوا صِدْقَهُ وأمانَتَهُ ونُصْحَهُ المُجَرَّدَ عَنْ طَلَبِ المَنفَعَةِ لِنَفْسِهِ إلّا ثَوابَ اللَّهِ فَلا عُذْرَ لَهم بِحالٍ في إشْراكِهِمْ وتَكْذِيبِهِمُ الرِّسالَةَ، ولَكِنَّهم مُتَّبِعُونَ أهْواءَهم مُعْرِضُونَ عَنِ الحَقِّ.
وما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ.
وخُتِمَتْ بِأمْرِ النَّبِيءِ ﷺ أنْ يَغُضَّ عَنْ سُوءِ مُعامَلَتِهِمْ ويَدْفَعَها بِالَّتِي هي أحْسَنُ، ويَسْألَ المَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ هو الفَلاحُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ.