﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ ﴿واغْفِرْ لِأبِيَ إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ .

لَمّا كانَ آخِرُ مَقالِهِ في الدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ الحَقِّ مُتَضَمِّنًا دُعاءً بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ تَخَلَّصَ مِنهُ إلى الدُّعاءِ بِما فِيهِ جَمْعُ الكَمالِ النَّفْسانِيِّ بِالرِّسالَةِ وتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الخَلْقِ إلى اللَّهِ، فَإنَّ الحُجَّةَ الَّتِي قامَ بِها في قَوْمِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] فَكانَ حِينَئِذٍ في حالِ قُرْبٍ مِنَ اللَّهِ. وجَهَرَ بِذَلِكَ في ذَلِكَ الجَمْعِ لِأنَّهُ عَقِبَ الِانْتِهاءِ مِن أقْدَسِ واجِبٍ وهو الدَّعْوَةُ إلى الدِّينِ، فَهو

صفحة ١٤٥

ابْتِهالٌ أرْجى لِلْقَبُولِ كالدُّعاءِ عَقِبَ الصَّلَواتِ وعِنْدَ إفْطارِ الصّائِمِ ودُعاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ والدُّعاءِ عِنْدَ الزَّحْفِ، وكُلُّها فَراغٌ مِن عِباداتٍ. ونَظِيرُ ذَلِكَ دُعاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهاءِ مِن بِناءِ أساسِ الكَعْبَةِ المَحْكِيِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] إلى ﴿إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] وابْتَدَأ بِنَفْسِهِ في أعْمالِ هَذا الدِّينِ كَما قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، وكَما أُمِرَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ إذْ قالَ: ﴿وأُمِرْتُ لِأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: ١٢] .

ولِلْأوَّلِيّاتِ في الفَضائِلِ مَرْتَبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، قالَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ: (أنا أوَّلُ مَن رَمى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ) . وبِضِدِّ ذَلِكَ أوَّلِيّاتُ المَساوِئِ فَفي الحَدِيثِ «ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها ذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» .

وقَدْ قابَلَ إبْراهِيمُ في دُعائِهِ النِّعَمَ الخَمْسَ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيْهِ المَذْكُورَةَ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] إلى قَوْلِهِ: (يَوْمَ الدِّينِ) الرّاجِعَةَ إلى مَواهِبَ حِسِّيَّةٍ بِسُؤالِ خَمْسِ نِعَمٍ راجِعَةٍ إلى الكَمالِ النَّفْسانِيِّ كَما أوْمَأ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وأقْحَمَ بَيْنَ طَلَباتِهِ سُؤالَهُ المَغْفِرَةَ لِأبِيهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ .

فابْتِداءُ دُعائِهِ بِأنْ يُعْطى حُكْمًا. هو الحِكْمَةُ والنُّبُوءَةُ، قالَ تَعالى عَنْ يُوسُفَ: ﴿آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [يوسف: ٢٢] أيِ: النُّبُوءَةَ، وقَدْ كانَ إبْراهِيمُ حِينَ دَعا نَبِيئًا فَلِذَلِكَ كانَ السُّؤالُ طَلَبًا لِلِازْدِيادِ؛ لِأنَّ مَراتِبَ الكَمالِ لا حَدَّ لَها بِأنْ يُعْطى الرِّسالَةَ مَعَ النُّبُوءَةِ أوْ يُعْطى شَرِيعَةً مَعَ الرِّسالَةِ، أوْ سَألَ الدَّوامَ عَلى ذَلِكَ.

ثُمَّ ارْتَقى فَطَلَبَ إلْحاقَهُ بِالصّالِحِينَ. ولَفْظُ الصّالِحِينَ يَعُمُّ جَمِيعَ الصّالِحِينَ مِنَ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، فَيَكُونُ قَدْ سَألَ بُلُوغَ دَرَجاتِ الرُّسُلِ أُولِي العَزْمِ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ فَجَعَلَ الصّالِحِينَ آخِرًا؛ لِأنَّهُ يَعُمُّ، فَكانَ تَذْيِيلًا.

ثُمَّ سَألَ بَقاءَ ذِكْرٍ لَهُ حَسَنٍ في الأُمَمِ والأجْيالِ الآتِيَةِ مِن بَعْدِهِ. وهَذا يَتَضَمَّنُ سُؤالَ الدَّوامِ والخِتامِ عَلى الكَمالِ وطَلَبَ نَشْرِ الثَّناءِ عَلَيْهِ وهَذا ما تَتَغَذّى بِهِ الرُّوحُ

صفحة ١٤٦

مِن بَعْدِ مَوْتِهِ؛ لِأنَّ الثَّناءَ عَلَيْهِ يَسْتَعْدِي دُعاءَ النّاسِ لَهُ والصَّلاةَ عَلَيْهِ والتَّسْلِيمَ جَزاءً عَلى ما عَرَفُوهُ مِن زَكاءِ نَفْسِهِ.

وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ في ذُرِّيَّتِهِ أنْبِياءَ ورُسُلًا يَذْكُرُونَهُ وتَذْكُرُهُ الأُمَمُ التّابِعَةُ لَهم ويَخْلُدُ ذِكْرُهُ في الكُتُبِ. قالابْنُ العَرَبِيِّ: ( قالَ مالِكٌ: لا بَأْسَ أنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أنْ يُثْنى عَلَيْهِ صالِحًا ويُرى في عَمَلِ الصّالِحِينَ إذا قَصَدَ بِهِ وجْهَ اللَّهِ وهو الثَّناءُ الصّالِحُ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]، وهي رِوايَةُ أشْهَبَ عَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا مُشْبَعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزْواجِنا وذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إمامًا﴾ [الفرقان: ٧٤] في سُورَةِ الفُرْقانِ.

واللِّسانُ مُرادٌ بِهِ الكَلامُ مِن إطْلاقِ اسْمِ الآلَةِ عَلى ما يَتَقَوَّمُ بِها. واللّامُ في قَوْلِهِ (لِي) تَقْتَضِي أنَّ الذِّكْرَ الحَسَنَ لِأجْلِهِ فَهو ذِكْرُهُ بِخَيْرٍ. وإضافَةُ (لِسانَ) إلى (صِدْقٍ) مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ، فَفِيهِ مُبالَغَةُ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ، أيْ: لِسانًا صادِقًا.

والصِّدْقُ هُنا كِنايَةٌ عَنِ المَحْبُوبِ المَرْغُوبِ فِيهِ لِأنَّهُ يُرْغَبُ في تَحَقُّقِهِ ووُقُوعِهِ في نَفْسِ الأمْرِ. وسَألَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُسْتَحِقِّينَ الجَنَّةَ خالِدًا فاسْتُعِيرَ اسْمُ الوَرَثَةِ إلى أهْلِ الِاسْتِحْقاقِ؛ لِأنَّ الوارِثَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِلْكُ الشَّيْءِ المَوْرُوثِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ المالِكِ السّابِقِ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَنَّةِ مالِكُونَ تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ الوارِثُونَ المُسْتَحِقِّينَ مِن وقْتِ تَبَوُّءِ أهْلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ تَعالى ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوارِثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠] ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١١] .

وسَألَ المَغْفِرَةَ لِأبِيهِ قَبْلَ سُؤالِ أنْ لا يُخْزِيَهَ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ؛ لِأنَّهُ أرادَ أنْ لا يَلْحَقَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْءٌ يَنْكَسِرُ مِنهُ خاطِرُهُ وقَدِ اجْتَهَدَ في العَمَلِ المُبَلِّغِ لِذَلِكَ واسْتَعانَ اللَّهَ عَلى ذَلِكَ وما بَقِيَتْ لَهُ حَزازَةُ إلّا حَزازَةَ كُفْرِ أبِيهِ فَسَألَ المَغْفِرَةَ لَهُ؛ لِأنَّهُ إذا جِيءَ بِأبِيهِ مَعَ الضّالِّينَ لَحِقَهُ انْكِسارٌ ولَوْ كانَ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ بَقِيَّةُ دَعَواتِهِ، فَكانَ هَذا آخَرَ شَيْءٍ تَخَوَّفَ مِنهُ لَحاقَ مَهانَةٍ نَفْسِيَّةٍ مِن جِهَةِ أصْلِهِ لا مِن جِهَةِ ذاتِهِ. وفي الحَدِيثِ أنَّهُ «يُؤْتى بِأبِي إبْراهِيمَ يَوْمَ القِيامَةِ في صُورَةٍ ذِيحٍ (أيْ: ضَبْعٍ ذَكَرٍ) فَيُلْقى في النّارِ فَلا يَشْعُرُ بِهِ أهْلُ المَوْقِفِ» فَذَلِكَ إجابَةُ قَوْلِهِ: ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ أيْ: قَطْعًا لِما فِيهِ شائِبَةُ الخِزْيِ.

صفحة ١٤٧

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى الخِزْيِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا خِزْيٌ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٨٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢] في آلِ عِمْرانَ.

وضَمِيرُ (يُبْعَثُونَ) راجِعٌ إلى العِبادِ المَعْلُومِ مِنَ المَقامِ.

وجُمْلَةُ (﴿إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾) تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ المَغْفِرَةِ لِأبِيهِ فِيهِ إيماءٌ إلى أنَّهُ سَألَ لَهُ مَغْفِرَةً خاصَّةً وهي مَغْفِرَةُ أكْبَرِ الذُّنُوبِ أعْنِي الإشْراكَ بِاللَّهِ، وهو سُؤالٌ اقْتَضاهُ مَقامُ الخُلَّةِ وقَدْ كانَ أبُوهُ حَيًّا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: ٤٧] . ولَعَلَّ إبْراهِيمَ عَلِمَ مِن حالِ أبِيهِ أنَّهُ لا يُرْجى إيمانُهُ بِما جاءَ بِهِ ابْنُهُ؛ أوْ أنَّ اللَّهَ أوْحى إلَيْهِ بِذَلِكَ ما تُرْشِدُ إلَيْهِ آيَةُ ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ﴾ [التوبة: ١١٤] . ويَجُوزُ أنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ في شَرْعِ إبْراهِيمَ حِينَئِذٍ حِرْمانُ المُشْرِكِينَ مِنَ المَغْفِرَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ﴾ [التوبة: ١١٤] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ طَلَبُ الغُفْرانِ لَهُ كِنايَةً عَنْ سَبَبِ الغُفْرانِ وهو هِدايَتُهُ إلى الإيمانِ.

و(﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ﴾) إلَخْ يَظْهَرُ أنَّهُ مِن كَلامِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَكُونُ (﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ﴾) بَدَلًا مِن (﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾) قَصَدَ بِهِ إظْهارَ أنَّ الِالتِجاءَ في ذَلِكَ اليَوْمِ إلى اللَّهِ وحْدَهُ، ولا عَوْنَ فِيهِ بِما اعْتادَهُ النّاسُ في الدُّنْيا مِن أسْبابِ الدَّفْعِ عَنْ أنْفُسِهِمْ.

واسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أنَّ الآياتِ الَّتِي أوَّلُها ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ يُرِيدُ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٢] مُنْقَطِعَةٌ عَنْ كَلامِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهي إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى صِفَةً لِلْيَوْمِ الَّذِي وقَفَ إبْراهِيمُ عِنْدَهُ في دُعائِهِ أنْ لا يُخْزى فِيهِ اهـ. وهو اسْتِظْهارٌ رَشِيقٌ فَيَكُونُ (﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ﴾) اسْتِئْنافًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هو يَوْمٌ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ. وفَتْحَةُ (يَوْمَ) فَتْحَةُ بِناءٍ؛ لِأنَّ (يَوْمَ) ظَرْفٌ أُضِيفَ إلى فِعْلٍ مُعَرَّبٍ فَيَجُوزُ إعْرابُهُ ويَجُوزُ بِناؤُهُ عَلى الفَتْحِ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩] . ويَظْهَرُ عَلى هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِ ﴿مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الإشارَةُ إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَهُ

صفحة ١٤٨

بِمِثْلِ هَذا في سُورَةِ الصّافّاتِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ﴾ [الصافات: ٨٣] أيْ: شِيعَةِ نُوحٍ لَإبْراهِيمَ ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] .

وفِيهِ أيْضًا تَذْكِيرُ قَوْمِهِ بِأنَّ أصْنامَهم لا تُغْنِي عَنْهم شَيْئًا، ونَفْيُ نَفْعِ المالِ صادِقٌ بِنَفْيِ وُجُودِ المالِ يَوْمَئِذٍ مِن بابِ (

عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ

)، أيْ: لا مَنارَ لَهُ فَيُهْتَدى بِهِ، وهو اسْتِعْمالٌ عَرَبِيٌّ إذا قامَتْ عَلَيْهِ القَرِينَةُ. ومِن عِباراتِ عِلْمِ المَنطِقِ (السّالِبَةُ تَصْدُقُ بِنَفْيِ المَوْضُوعِ) .

والِاقْتِصارُ عَلى المالِ والبَنِينَ في نَفْيِ النّافِعِينَ جَرى عَلى غالِبِ أحْوالِ القَبائِلِ في دِفاعِ أحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ بِأنْ يُدافِعَ إمّا بِفِدْيَةٍ وإمّا بِنَجْدَةٍ (وهي النَّصْرُ)، فالمالُ وسِيلَةُ الفِدْيَةِ، والبَنُونَ أحَقُّ مَن يُنْصَرُونَ أباهم، ويُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّصْرُ عِنْدَهم عَهْدًا يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ. قالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ:

ثَأرْتُ عَدِيًّا والخَطِيمَ ولَمْ أُضِعْ ∗∗∗ وِلايَةَ أشْياخٍ جُعِلَتْ إزاءَها

واقْتَضى ذَلِكَ أنَّ انْتِفاءَ نَفْعِ ما عَدا المالَ والبَنِينَ مِن وسائِلِ الدِّفاعِ حاصِلٌ بِالأوْلى بِحُكْمِ دَلالَةِ الِاقْتِضاءِ المُسْتَنِدَةِ إلى العُرْفِ. فالكَلامُ مِن قَبِيلِ الِاكْتِفاءِ، كَأنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ ولا شَيْءٌ آخَرُ. وقَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن مَفْعُولِ (يَنْفَعُ)، أيْ: إلّا مَنفُوعًا أتى اللَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

هَذا مَعْنى الآيَةِ وهو مَفْهُومٌ لِلسّامِعِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرُ عَنْ أحَدٍ مِن سَلَفِ المُفَسِّرِينَ عَدُّ هَذِهِ الآيَةِ مِن مُتَشابِهِ المَعْنى، وإنَّما أعْضَلَ عَلى خَلَفِهِمْ طَرِيقُ اسْتِخْلاصِ هَذا المَعْنى المُجْمَلِ مِن تَفاصِيلِ أجْزاءِ تَرْكِيبِ الكَلامِ. وذَكَرَ صاحِبُ الكَشّافِ احْتِمالاتٍ لا يَسْلَمُ شَيْءٌ مِنها مِن تَقْدِيرِ حَذْفٍ، فَبِنا أنَّ نُفَصِّلَ وجْهَ اسْتِفادَةِ هَذا المَعْنى مِن نَظْمِ الآيَةِ بِوَجْهٍ يَكُونُ ألْيَقَ بِتَرْكِيبِها دُونَ تَكَلُّفٍ.

فاعْلَمْ أنَّ فِعْلَ (يَنْفَعُ) رافِعٌ لِفاعِلٍ ومُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ، فَهو بِحَقِّ تَعَدِّيهِ إلى المَفْعُولِ يَقْتَضِي مَفْعُولًا، كَما يَصْلُحُ لِأنْ تُعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلَّقاتٌ بِحُرُوفِ تَعْدِيَةٍ، أيْ: حُرُوفِ جَرٍّ، وإنَّ أوَّلَ مُتَعَلَّقاتِهِ خُطُورًا بِالذِّهْنِ مُتَعَلَّقُ سَبَبِ الفِعْلِ، فَيُعْلَمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ يُشِيرُ إلى فاعِلِ

صفحة ١٤٩

(يَنْفَعُ) ومَفْعُولِهِ وسَبَبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) هو المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ (أتى اللَّهُ)؛ لِأنَّ فاعِلَ الإتْيانِ إلى اللَّهِ هو المَنفُوعُ فَهو في المَعْنى مَفْعُولُ فِعْلِ (يَنْفَعُ) والمُتَعَلِّقُ بِأحَدِ فِعْلَيْهِ وهو فِعْلُ (أتى) الَّذِي هو فاعِلُهُ مُتَعَلِّقٌ في المَعْنى بِفِعْلِهِ الآخَرِ وهو (يَنْفَعُ) الَّذِي (مَن أتى اللَّهَ) مَفْعُولُهُ. فَعُلِمَ أنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ: يَوْمَ لا يَنْفَعُ نافِعٌ أوْ شَيْءٌ، أوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمّا يُفِيدُ عُمُومَ نَفْيِ النّافِعِ، حَسْبَما دَلَّ عَلَيْهِ (﴿مالٌ ولا بَنُونَ﴾) مِن عُمُومِ الأشْياءِ كَما قَرَّرْنا. وحُذِفَ مَفْعُولُ (يَنْفَعُ) لِقَصْدِ العُمُومِ كَحَذْفِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ﴾ [يونس: ٢٥] أيْ: يَدْعُو كُلَّ أحَدٍ، فَتَحَصَّلَ أنَّ التَّقْدِيرَ: يَوْمَ لا يَنْفَعُ أحَدًا شَيْءٌ يَأْتِي بِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.

والمُسْتَثْنى وهو (﴿مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾) مُتَعَيِّنٌ؛ لِأنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مِن مَفْعُولِ (يَنْفَعُ) ولَيْسَ مُسْتَثْنًى مِن فاعِلِ (يَنْفَعُ)؛ لِأنَّ مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَوْمَئِذٍ هو مَنفُوعٌ لا نافِعٌ فَلَيْسَ مُسْتَثْنًى مِن صَرِيحِ أحَدِ الِاسْمَيْنِ السّابِقَيْنِ قَبْلَهُ، ولا مِمّا دَلَّ عَلَيْهِ الإيمانُ مِنَ المَعْنى الأعَمِّ الَّذِي قَدَّرْناهُ بِمَعْنى (ولا غَيْرُهُما)، فَتَمَحَّضَ أنْ يَكُونَ هَذا المُسْتَثْنى مُخْرَجًا مِن عُمُومِ مَفْعُولِ (يَنْفَعُ) . وتَقْدِيرُهُ: إلّا أحَدٌ أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، أيْ: فَهو مَنفُوعٌ، واسْتِثْناؤُهُ مِن مَفْعُولِ فِعْلِ (يَنْفَعُ) يَضْطَرُّنا إلى وُجُوبِ تَقْدِيرِ نافِعِهِ فاعِلَ فِعْلِ (يَنْفَعُ)، أيْ: فَإنْ نَفَعَهُ شَيْءٌ نافِعٌ. ويُبَيِّنُ إجْمالَهُ مُتَعَلَّقُ فِعْلِ (يَنْفَعُ) وهو (﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ) إذْ كانَ القَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبَ النَّفْعِ فَهو أحَدُ أفْرادِ الفاعِلِ العامِّ المُقَدَّرِ بِلَفْظِ (شَيْءٌ) كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.

فالخُلاصَةُ أنَّ الَّذِي يَأْتِي اللَّهَ يَوْمَئِذٍ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هو مَنفُوعٌ بِدَلالَةِ الِاسْتِثْناءِ وهو نافِعٌ (أيْ: نافِعٌ نَفْسَهُ) بِدَلالَةِ المَجْرُورِ المُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ (أتى)، فَإنَّ القَلْبَ السَّلِيمَ قَلْبُ ذَلِكَ الشَّخْصِ المَنفُوعِ فَصارَ ذَلِكَ الشَّخْصُ نافِعًا ومَنفُوعًا بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ، وهو ضَرْبٌ مِنَ التَّجْرِيدِ. وقَرِيبٌ مِن وُقُوعِ الفاعِلِ مَفْعُولًا في بابِ ظَنَّ في قَوْلِهِمْ: خِلْتُنِي ورَأيْتُنِي، فَجُعِلَ القَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبًا يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، ولِهَذا فالِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ عَنِ المَفْعُولِ. وقَدْ حَصَلَ مِن نَسْجِ الكَلامِ عَلى هَذا المِنوالِ إيجازٌ مُغْنٍ أضْعافًا مِنَ الجُمَلِ الطَّوِيلَةِ. وجَعْلُ الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا لا يَدْفَعُ الإشْكالَ.

صفحة ١٥٠

والقَلْبُ: الإدْراكُ الباطِنِيُّ.

والسَّلِيمُ: المَوْصُوفُ بِقُوَّةِ السَّلامَةِ، والمُرادُ بِها هُنا السَّلامَةُ المَعْنَوِيَّةُ المَجازِيَّةُ، أيِ: الخُلُوصُ مِن عَقائِدِ الشِّرْكِ مِمّا يَرْجِعُ إلى مَعْنى الزُّكاءِ النَّفْسِيِّ. وضِدُّهُ المَرِيضُ مَرَضًا مَجازِيًّا قالَ تَعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠] . والِاقْتِصارُ عَلى السَّلِيمِ هُنا؛ لِأنَّ السَّلامَةَ باعِثُ الأعْمالِ الصّالِحَةِ والظّاهِرِيَّةِ، وإنَّما تَثْبُتُ لِلْقُلُوبِ هَذِهِ السَّلامَةُ في الدُّنْيا بِاعْتِبارِ الخاتِمَةِ فَيَأْتُونَ بِها سالِمَةً يَوْمَ القِيامَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ.