Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿قالَتْ إحْداهُما يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ﴾ ﴿قالَ إنِّيَ أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِن عِنْدِكَ وما أُرِيدُ أنْ أشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِيَ إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿قالَ ذَلِكَ بَيْنِي وبَيْنَكَ أيَّما الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ واللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وكِيلٌ﴾
حَذَفَ ما لَقِيَهُ مُوسى مِن شُعَيْبٍ مِنَ الجَزاءِ بِإضافَتِهِ وإطْعامِهِ، وانْتَقَلَ مِنهُ إلى عَرْضِ إحْدى المَرْأتَيْنِ عَلى أبِيها أنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِلْعَمَلِ في ماشِيَتِهِ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهم بِبَيْتِهِمْ رَجُلٌ يَقُومُ بِذَلِكَ، وقَدْ كَبُرَ أبُوهُما فَلَمّا رَأتْ أمانَتَهُ ووَرَعَهُ رَأتْ أنَّهُ خَيْرُ مَن يُسْتَأْجَرُ لِلْعَمَلِ عِنْدَهم لِقُوَّتِهِ عَلى العَمَلِ وأمانَتِهِ.
والتّاءُ في ”أبَتِ“ عِوَضٌ عَنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ في النِّداءِ خاصَّةً، وهي يَجُوزُ كَسْرُها وبِهِ قَرَأ الجُمْهُورُ. ويَجُوزُ فَتْحُها وبِهِ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ﴾ عِلَّةٌ لِلْإشارَةِ عَلَيْهِ بِاسْتِئْجارِهِ، أيْ لِأنَّ مِثْلَهُ مَن يُسْتَأْجَرُ. وجاءَتْ بِكَلِمَةٍ جامِعَةٍ مُرْسَلَةٍ مَثَلًا؛ لِما فِيها مِنَ العُمُومِ ومُطابَقَةِ الحَقِيقَةِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ، فالتَّعْرِيفُ بِاللّامِ في ”القَوِيُّ الأمِينُ“ لِلْجِنْسِ مُرادٌ بِهِ العُمُومُ. والخِطابُ في ”مَنِ اسْتَأْجَرْتَ“ مُوَجَّهٌ إلى شُعَيْبٍ، وصالِحٌ لِأنْ يَعُمَّ كُلَّ مَن يَصْلُحُ لِلْخِطابِ لِتَتِمَّ صَلاحِيَّةُ هَذا الكَلامِ لِأنْ يُرْسَلَ مَثَلًا. فالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَأْجَرَ المُسْتَأْجِرُ. و”مَن“ مَوْصُولَةٌ في مَعْنى المُعَرَّفِ بِلامِ الجِنْسِ إذْ لا يُرادُ بِالصِّلَةِ هُنا وصْفُ خاصٍّ بِمُعَيَّنٍ.
وجَعْلُ ”خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ“ مُسْنَدًا إلَيْهِ بِجَعْلِهِ اسْمًا؛ لِأنَّ جَعْلَ ”القَوِيُّ
صفحة ١٠٦
الأمِينُ“ خَبَرًا مَعَ صِحَّةِ جَعْلِ ”القَوِيُّ الأمِينُ“ هو المُسْنَدَ إلَيْهِ فَإنَّهُما مُتَساوِيانِ في المَعْرِفَةِ مِن حَيْثُ إنَّ المُرادَ بِالتَّعْرِيفِ في المَوْصُولِ المُضافِ إلَيْهِ ”خَيْرَ“، وفي المُعَرَّفِ بِاللّامِ هُنا العُمُومُ في كِلَيْهِما، فَأُوثِرَ بِالتَّقْدِيمِ في جُزْأيِ الجُمْلَةِ ما هو أهَمُّ وأوْلى بِالعِنايَةِ وهو خَيْرُ أجِيرٍ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ سِيقَتْ مَساقَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ ”اسْتَأْجَرَهُ“ فَوَصْفُ الأجِيرِ أهَمُّ في مَقامِ تَعْلِيلِها ونَفْسُ السّامِعِ أشَدُّ تَرَقُّبًا لِحالِهِ.ومَجِيءُ هَذا العُمُومِ عَقِبَ الحَدِيثِ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يُؤْذِنُ بِأنَّ المُتَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ العُمُومُ، فَكانَ ذَلِكَ مُصادِفًا المَحَزَّ مِنَ البَلاغَةِ إذْ صارَ إثْباتُ الأمانَةِ والقُوَّةِ لِهَذا المُتَحَدَّثِ عَنْهُ إثْباتًا لِلْحُكْمِ بِدَلِيلٍ. فَتَقْدِيرُ مَعْنى الكَلامِ: اسْتَأْجِرْهُ فَهو قَوِيٌّ أمِينٌ وإنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرَ مُسْتَأْجِرٌ القَوِيُّ الأمِينُ. فَكانَتِ الجُمْلَةُ مُشْتَمِلَةً عَلى خُصُوصِيَّةِ تَقْدِيمِ الأهَمِّ وعَلى إيجازِ الحَذْفِ وعَلى المَذْهَبِ الكَلامِيِّ، وبِذَلِكَ اسْتَوْفَتْ غايَةَ مُقْتَضى الحالِ فَكانَتْ بالِغَةً حَدَّ الإعْجازِ.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ (أشْكُو إلى اللَّهِ ضَعْفَ الأمِينِ وخِيانَةَ القَوِيِّ) . يُرِيدُ أسْألُهُ أنْ يُؤَيِّدَنِي بِقَوِيٍّ أمِينٍ أسْتَعِينُ بِهِ.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ ”هاتَيْنِ“ إلى المَرْأتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقى لَهُما إنْ كانَتا حاضِرَتَيْنِ مَعًا دُونَ غَيْرِهِما مِن بَناتِ شُعَيْبٍ لِتَعَلُّقِ القَضِيَّةِ بِشَأْنِهِما، أوْ تَكُونُ الإشارَةُ إلَيْهِما لِحُضُورِهِما في ذِهْنِ مُوسى بِاعْتِبارِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالسَّقْيِ لَهُما إنْ كانَتِ الأُخْرى غائِبَةً حِينَئِذٍ.
وفِيهِ جَوازُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَوْلاتِهِ عَلى مَن يَتَزَوَّجُها رَغْبَةً في صَلاحِهِ. وجَعَلَ لِمُوسى اخْتِيارَ إحْداهُما؛ لِأنَّهُ قَدْ عَرَفَها وكانَتِ الَّتِي اخْتارَها مُوسى صَفُّورَةَ، وهي الصُّغْرى كَما جاءَ في رِوايَةِ أبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيءِ ﷺ . وإنَّما اخْتارَها دُونَ أُخْتِها؛ لِأنَّها الَّتِي عَرَفَ أخْلاقَها بِاسْتِحْيائِها وكَلامِها فَكانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَها عِنْدَهُ.
وكانَ هَذا التَّخْيِيرُ قَبْلَ انْعِقادِ النِّكاحِ، فَلَيْسَ فِيهِ جَهْلُ المَعْقُودِ عَلَيْها. وقَوْلُهُ ﴿عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ حَرْفُ ”عَلى“ مَن صِيَغِ الشَّرْطِ في العُقُودِ. و”تَأْجُرُنِي“ مُضارِعُ أجَرَهُ مِثْلُ نَصَرَهُ إذا كانَ أجِيرًا لَهُ. والحِجَجُ اسْمٌ
صفحة ١٠٧
جَمْعُ حِجَّةٍ بِكَسْرِ الحاءِ وهي السَّنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الحَجِّ؛ لِأنَّ الحَجَّ يَقَعُ كُلَّ سَنَةٍ ومَوْسِمُ الحَجِّ يَقَعُ في آخِرِ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ العَرَبِيَّةِ.والتِزامُ جَعْلِ تَزْوِيجِهِ مَشْرُوطًا بِعَقْدِ الإجارَةِ بَيْنَهُما عَرْضٌ مِنهُ عَلى مُوسى، ولَيْسَ بِعَقْدِ نِكاحٍ ولا إجارَةٍ حَتّى يَرْضى مُوسى. وفي هَذا العَرْضِ دَلِيلٌ لِمَسْألَةِ جَمْعِ عَقْدِ النِّكاحِ مَعَ عَقْدِ الإجارَةِ. والمَسْألَةُ أصْلُها مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ «المَرْأةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَها عَلى النَّبِيءِ ﷺ فَلَمْ يَتَزَوَّجْها، وزَوَّجَها مِن رَجُلٍ كانَ حاضِرًا مَجْلِسَهُ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ما يُصْدِقُها فَزَوَّجَهُ إيّاها بِما مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ، أيْ عَلى أنْ يُعَلِّمَها إيّاهُ» .
والمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّ الشَّرْطَ المُقارِنَ لِعَقْدِ النِّكاحِ إنْ كانَ مِمّا يُنافِي عَقْدَ النِّكاحِ فَهو باطِلٌ، ويُفْسَخُ النِّكاحُ قَبْلَ البِناءِ ويَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَداقِ المِثْلِ. وأمّا غَيْرُ المُنافِي لِعَقْدِ النِّكاحِ فَلا يُفْسَخُ النِّكاحُ لِأجْلِهِ، ولَكِنْ يُلْغى الشَّرْطُ. وعَنْ مالِكٍ أيْضًا: تُكْرَهُ الشُّرُوطُ كُلُّها ابْتِداءً فَإنْ وقَعَ مَضى. وقالَ أشْهَبُ، وأصْبَغُ: الشَّرْطُ جائِزٌ، واخْتارَهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ وهو الحَقُّ لِلْآيَةِ، ولِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «أحَقُّ الشُّرُوطِ أنْ يُوَفّى بِهِ ما اسْتَحْلَلْتُمْ عَلَيْهِ الفُرُوجَ» .
وظاهِرُ الآيَةِ أيْضًا أنَّ الإجارَةَ المَذْكُورَةَ جُعِلَتْ مَهْرًا لِلْبِنْتِ. ويُحْتَمَلُ أنَّ المَشْرُوطَ التِزامُ الإجارَةِ لا غَيْرُ، وأمّا المَهْرُ فَتابِعٌ لِما يُعْتَبَرُ في شَرْعِهِمْ رُكْنًا في النِّكاحِ، والشَّرائِعُ قَدْ تَخْتَلِفُ في مَعانِي الماهِيّاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وإذا أخَذْنا بِظاهِرِ الآيَةِ كانَتْ دالَّةً عَلى أنَّهُما جَعَلا المَهْرَ مَنافِعَ إجارَةِ الزَّوْجِ لِشُعَيْبٍ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضاها؛ لِأنَّها سَمِعَتْ وسَكَتَتْ بِناءً عَلى عَوائِدَ مَرْعِيَّةٍ عِنْدَهم بِأنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ المَنافِعِ أبُوها.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِوَلِيِّ المَرْأةِ بِالأصالَةِ إنْ كانَ هو المُسْتَحِقَّ لِلْمَهْرِ في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَإنَّ عَوائِدَ الأُمَمِ مُخْتَلِفَةٌ في تَزْوِيجِ ولاياهم. وإذْ قَدْ كانَ في الآيَةِ إجْمالٌ لَمْ تَكُنْ كافِيَةً في الِاحْتِجاجِ عَلى جَوازِ جَعْلِ مَهْرِ المَرْأةِ مَنافِعَ مِن إجارَةِ زَوْجِها فَيَرْجِعُ النَّظَرُ في صِحَّةِ جَعْلِ المَهْرِ إجارَةً إلى التَّخْرِيجِ عَلى قَواعِدِ الشَّرِيعَةِ، والدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنى المَهْرِ، فَإنَّ مَنافِعَ الإجارَةِ ذاتُ قِيمَةٍ فَلا مانِعَ مِن أنْ تُجْعَلَ مَهْرًا. والتَّحْقِيقُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّهُ مَكْرُوهٌ ويَمْضِي. وأجازَهُ الشّافِعِيُّ وعَبْدُ المَلِكِ بْنُ
صفحة ١٠٨
حَبِيبٍ مِنَ المالِكِيَّةِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ جَعْلُ المَهْرِ مَنافِعَ حُرٍّ ويَجُوزُ كَوْنُهُ مَنافِعَ عَبْدٍ. ولَمْ يَرَ في الآيَةِ دَلِيلًا؛ لِأنَّها تَحْتَمِلُ عِنْدَهُ أنْ يَكُونَ النِّكاحُ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ فَوَقَعَ الإجْمالُ فِيها. ووافَقَهُ ابْنُ القاسِمِ مِن أصْحابِ مالِكٍ.وإذْ قَدْ كانَ حُكْمُ شَرْعِ مَن قَبْلَنا مُخْتَلِفًا في جَعْلِهِ شَرْعًا لَنا كانَ حُجَّةً مُخْتَلَفًا فِيها بَيْنَ عُلَماءِ أُصُولِ الفِقْهِ، فَزادَها ضَعْفًا في هَذِهِ الآيَةِ الإجْمالُ الَّذِي تَطَرَّقَها فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى أدِلَّةٍ أُخْرى مِن شَرِيعَةِ الإسْلامِ. ودَلِيلُ الجَوازِ داخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنى المَهْرِ. فَإنْ كانَتِ المَنافِعُ المَجْعُولَةُ مَهْرًا حاصِلَةً قَبْلَ البِناءِ فالأمْرُ ظاهِرٌ، وإنْ كانَ بَعْضُها أوْ جَمِيعُها لا يَتَحَقَّقُ إلّا بَعْدَ البِناءِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ رَجَعَتِ المَسْألَةُ إلى النِّكاحِ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ وهو مَكْرُوهٌ غَيْرُ باطِلٍ. وإلى الإجارَةِ بِعِوَضٍ غَيْرِ قابِلٍ لِلتَّبْعِيضِ بِتَبْعِيضِ العَمَلِ، فَإذا لَمْ يُتِمَّ الأجِيرُ العَمَلَ في هَذِهِ رَجَعَتْ إلى مَسْألَةِ عَجْزِ العامِلِ عَنِ العَمَلِ بَعْدَ أنْ قَبَضَ الأجْرَ. وقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ وفي حَدِيثِ «المَرْأةِ الَّتِي وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيءِ ﷺ فَظَهَرَ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمْ يَقْبَلْها وأنَّ رَجُلًا مِن أصْحابِهِ قالَ لَهُ: إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِها حاجَةٌ فَزَوِّجْنِيها. قالَ: هَلْ عِنْدَكَ ما تُصْدِقُها ؟ إلى أنْ قالَ لَهُ ﷺ التَمَسَ ولَوْ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ قالَ: ما عِنْدِي ولا خاتَمٌ مِن حَدِيدٍ، وأنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ لَهُ: ما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ ؟ قالَ: مَعِي سُورَةُ كَذا وسُورَةُ كَذا لِسُوَرٍ سَمّاها. قالَ لَهُ: قَدْ مَلَّكْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ. وفي رِوايَةٍ أنَّ النَّبِيءَ أمَرَهُ أنْ يُعَلِّمَها عِشْرِينَ آيَةً مِمّا مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ وتَكُونُ امْرَأتَهُ» . فَإنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيادَةُ كانَ الحَدِيثُ جارِيًا عَلى وفْقِ ما في هَذِهِ الآيَةِ وكانَ حُجَّةً لِصِحَّةِ جَعْلِ الصَّداقِ إجارَةً عَلى عَمَلٍ، وإنْ لَمْ تَصِحَّ كَما هو المَشْهُورُ في كُتُبِ الصَّحِيحِ فالقِصَّةُ خُصُوصِيَّةٌ يُقْتَصَرُ عَلى مَوْرِدِها.
ولَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ في الآيَةِ لِلْعَمَلِ المُسْتَأْجَرِ عَلَيْهِ. ووَرَدَ في سِفْرِ الخُرُوجِ أنَّهُ رَعى غَنَمَ يَثْرُونَ وهو شُعَيْبٌ، ولا غَرَضَ لِلْقُرْآنِ في بَيانِ ذَلِكَ. ولَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ إلى الأجْرِ وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ إنْكاحُهُ البِنْتَ فَإذا لَمْ نَأْخُذْ بِهَذا الظّاهِرِ كانَتِ الآيَةُ غَيْرَ مُتَعَرِّضَةٍ لِلْأجْرِ، إذْ لا غَرَضَ فِيهِ مِن سَوْقِ القِصَّةِ فَيَكُونُ جارِيًا عَلى ما هو مُتَعارَفٌ عِنْدَهم في أُجُورِ الأعْمالِ، وكانَتْ لِلْقَبائِلِ عَوائِدُ في ذَلِكَ. وقَدْ أدْرَكْتُ
صفحة ١٠٩
مُنْذُ أوَّلِ هَذا القَرْنِ الرّابِعَ عَشَرَ أنَّ راعِيَ الغَنَمِ لَهُ في كُلِّ عامٍ قَمِيصٌ وحِذاءٌ يُسَمّى بَلْغَةً ونَحْوُ ذَلِكَ لا أضْبُطُهُ الآنَ.وقَوْلُهُ ﴿فَإنْ أتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِن عِنْدِكَ﴾ جَعَلَ ذَلِكَ إلى مُوسى تَفَضُّلًا مِنهُ أنِ اخْتارَهُ ووَكَّلَهُ إلى ما تَكُونُ عَلَيْهِ حالُهُ في مُنْتَهى الحِجَجِ الثَّمانِ مِن رَغْبَةٍ في الزِّيادَةِ.
و”مِن“ ابْتِدائِيَّةٌ. و”عِنْدَ“ مُسْتَعْمَلَةٌ في الذّاتِ والنَّفْسِ مَجازًا، والمَجْرُورُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: فَإتْمامُ العَشْرِ مِن نَفْسِكَ، أيْ لا مِنِّي، يَعْنِي: أنَّ الإتْمامَ لَيْسَ داخِلًا في العُقْدَةِ الَّتِي هي مِنَ الجانِبَيْنِ فَكانَ مَفْهُومُ الظَّرْفِ مُعْتَبَرًا هُنا.
واحْتَجَّ مالِكٌ بِقَوْلِهِ ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ﴾ عَلى أنَّ لِلْأبِ إنْكاحَ ابْنَتِهِ البِكْرِ بِدُونِ إذْنِها وهو أخْذٌ بِظاهِرِها إذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِاسْتِئْذانِها. ولِمَن يَمْنَعُ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ: إنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ لا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ.
وقَوْلُهُ ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ يُرِيدُ الصّالِحِينَ بِالنّاسِ في حُسْنِ المُعامَلَةِ ولِينِ الجانِبِ. قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ خُلُقِهِ لِصاحِبِهِ، ولَيْسَ هَذا مِن تَزْكِيَةِ النَّفْسِ المَنهِيِّ عَنْهُ؛ لِأنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ ما قَصَدَ بِهِ قائِلُهُ الفَخْرَ والتَّمَدُّحَ، فَأمّا ما كانَ لِغَرَضِ الدِّينِ أوِ المُعامَلَةِ فَذَلِكَ حاصِلٌ لِداعٍ حَسَنٍ كَما قالَ يُوسُفُ ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥] .
و”أشُقَّ عَلَيْكَ“ مَعْناهُ: أكُونَ شاقًّا عَلَيْكَ، أيْ مُكَلِّفَكَ مَشَقَّةً، والمَشَقَّةُ: العُسْرُ والتَّعَبُ والصُّعُوبَةُ في العَمَلِ. والأصْلُ أنْ يُوصَفَ بِالشّاقِّ العَمَلُ المُتْعِبُ، فَإسْنادُ ”أشُقَّ“ إلى ذاتِهِ إسْنادٌ مَجازِيٌّ؛ لِأنَّهُ سَبَبُ المَشَقَّةِ، أيْ ما أُرِيدُ أنْ أشْتَرِطَ عَلَيْكَ ما فِيهِ مَشَقَّتُكَ. وهَذا مِنَ السَّماحَةِ الوارِدِ فِيها حَدِيثُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمْحًا إذا باعَ، سَمَحًا إذا اشْتَرى» . . .
وجُمْلَةُ ﴿قالَ ذَلِكَ بَيْنِي وبَيْنَكَ﴾ حِكايَةٌ لِجَوابِ مُوسى عَنْ كَلامِ شُعَيْبٍ. واسْمُ الإشارَةِ إلى المَذْكُورِ وهو ﴿عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ إلى آخِرِهِ. وهَذا قَبُولُ مُوسى لِما أوْجَبَهُ شُعَيْبٌ وبِهِ تَمَّ التَّعاقُدُ عَلى النِّكاحِ وعَلى الإجارَةِ، أيِ الأمْرُ عَلى ما شَرَطْتَ عَلَيَّ وعَلَيْكَ. وأطْلَقَ بَيْنِي وبَيْنَكَ مَجازًا في مَعْنى الثُّبُوتِ واللُّزُومِ والِارْتِباطِ، أيْ كُلٌّ فِيما هو مِن عَمَلِهِ.
صفحة ١١٠
و”أيَّما“ مَنصُوبٌ بِـ ”قَضَيْتُ“ . و”أيَّ“ اسْمٌ مَوْصُولٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ (ما) . وزِيدَتْ بَعْدَها ”ما“ لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِيرَ المَوْصُولُ شَبِيهًا بِأسْماءِ الشَّرْطِ؛ لِأنَّ تَأْكِيدَ ما في اسْمِ المَوْصُولِ مِنَ الإبْهامِ يُكْسِبُهُ عُمُومًا فَيُشْبِهُ الشَّرْطَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ لَهُ جَوابٌ كَجَوابِ الشَّرْطِ. والجُمْلَةُ كُلُّها بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ”ذَلِكَ بَيْنِي وبَيْنَكَ“؛ لِأنَّ التَّخْيِيرَ في مُنْتَهى الأجَلِ مِمّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّعاقُدُ المُفادُ بِجُمْلَةِ ”ذَلِكَ بَيْنِي وبَيْنَكَ“ والعُدْوانُ بِضَمِّ العَيْنِ: الِاعْتِداءُ عَلى الحَقِّ، أيْ فَلا تَعْتَدِي عَلَيَّ. فَنَفى جِنْسَ العُدْوانِ الَّذِي مِنهُ عُدْوانُ مُسْتَأْجِرِهِ. واسْتَشْهَدَ مُوسى عَلى نَفْسِهِ وعَلى شُعَيْبٍ بِشَهادَةِ اللَّهِ.وأصْلُ الوَكِيلِ: الَّذِي وُكِّلَ إلَيْهِ الأمْرُ، وأرادَ هُنا أنَّهُ وُكِّلَ عَلى الوَفاءِ بِما تَعاقَدا عَلَيْهِ، حَتّى إذا أخَلَّ أحَدُهُما بِشَيْءٍ كانَ اللَّهُ مُؤاخِذَهُ. ولَمّا ضُمِّنَ الوَكِيلُ مَعْنى الشّاهِدِ عُدِّيَ بِحَرْفِ ”عَلى“ وكانَ حَقُّهُ أنْ يُعَدّى بِـ (إلى) .
والعِبْرَةُ مِن سِياقَةِ هَذا الجُزْءِ مِنَ القِصَّةِ المُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٢] إلى قَوْلِهِ ﴿واللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وكِيلٌ﴾ هو ما تَضَمَّنَتْهُ مِن فَضائِلِ الأعْمالِ ومَناقِبِ أهْلِ الكَمالِ، وكَيْفَ هَيَّأ اللَّهُ تَعالى مُوسى لِتَلَقِّي الرِّسالَةِ بِأنْ قَلَّبَهُ في أطْوارِ الفَضائِلِ، وأعْظَمُها مُعاشَرَةُ رَسُولٍ مِن رُسُلِ اللَّهِ ومُصاهَرَتُهُ، وما تَتَضَمَّنَهُ مِن خِصالِ المُرُوءَةِ والفُتُوَّةِ الَّتِي اسْتَكَنَّتْ في نَفْسِهِ مِن فِعْلِ المَعْرُوفِ، وإغاثَةِ المَلْهُوفِ، والرَّأْفَةِ بِالضَّعِيفِ، والزُّهْدِ، والقَناعَةِ، وشُكْرِ رَبِّهِ عَلى ما أسْدى إلَيْهِ، ومِنَ العَفافِ والرَّغْبَةِ في عِشْرَةِ الصّالِحِينَ، والعَمَلِ لَهم، والوَفاءِ بِالعَقْدِ، والثَّباتِ عَلى العَهْدِ حَتّى كانَ خاتِمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفَهُ بِالرِّسالَةِ وما تَضَمَّنَتْهُ مِن خِصالِ النُّبُوَّةِ الَّتِي أبْداها شُعَيْبٌ مِن حُبِّ القِرى، وتَأْمِينِ الخائِفِ، والرِّفْقِ في المُعامَلَةِ، لِيَعْتَبِرَ المُشْرِكُونَ بِذَلِكَ إنْ كانَ لَهُمُ اعْتِبارٌ في مُقايَسَةِ تِلْكَ الأحْوالِ بِأجْناسِها مِن أحْوالِ النَّبِيءِ ﷺ فَيَهْتَدُوا إلى أنَّ ما عَرَفُوهُ بِهِ مِن زَكِيِّ الخِصالِ قَبْلَ رِسالَتِهِ، وتَقْوِيمِ سِيرَتِهِ، وإعانَتِهِ عَلى نَوائِبِ الحَقِّ، وتَزَوُّجِهِ أفْضَلَ امْرَأةٍ مِن نِساءِ قَوْمِهِ، إنْ هي إلّا خِصالٌ فاذَّةٌ فِيهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وإنْ هي إلّا
صفحة ١١١
بِوارِقُ لِانْهِطالِ سَحابِ الوَحْيِ عَلَيْهِ. واللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ولِيَأْتَسِيَ المُسْلِمُونَ بِالأُسْوَةِ الحَسَنَةِ مِن أخْلاقِ أهْلِ النُّبُوءَةِ والصَّلاحِ.