﴿ولَقَدْ تَرَكْنا مِنها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ [العنكبوت: ٢٨] إلَخْ. . عَطْفُ آيَةٍ عَلى آيَةٍ؛ لِأنَّ قِصَّةَ لُوطٍ آيَةٌ بِما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الخَبَرِ، وآثارَ قَرْيَةِ قَوْمِهِ آيَةٌ أُخْرى بِما يُمْكِنُ مُشاهَدَتُهُ لِأهْلِ البَصَرِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً في آخِرِ القِصَّةِ، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فَهو مِن كَلامِ اللَّهِ. ونُونُ المُتَكَلِّمِ المُعَظَّمِ ضَمِيرُ الجَلالَةِ، ولَيْسَتْ ضَمِيرَ المَلائِكَةِ. والآيَةُ: العَلامَةُ الدّالَّةُ عَلى أمْرٍ.

ومَفْعُولُ تَرَكْنا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ آيَةً فَيُجْعَلُ مِن حَرْفَ جَرٍّ وهو مَجْرُورٌ وصْفًا لِـ آيَةً قُدِّمَ عَلى مَوْصُوفِهِ لِلِاهْتِمامِ، فَيُجْعَلُ حالًا مِن آيَةً.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”مِن“ لِلِابْتِداءِ، أيْ تَرَكْنا آيَةً صادِرَةً مِن آثارِها ومُعَرِّفَةً خَبَرَها، وهي آيَةٌ واضِحَةٌ دائِمَةٌ عَلى طُولِ الزَّمانِ إلى الآنِ؛ ولِذَلِكَ وُصِفَتْ بِـ بَيِّنَةً، ولَمْ تُوصَفْ آيَةُ السَّفِينَةِ بِـ ”بَيِّنَةً“ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٥]؛ لِأنَّ السَّفِينَةَ قَدْ بَلِيَتْ ألْواحُها وحَدِيدُها أوْ بَقِيَ مِنها ما لا يَظْهَرُ إلّا بَعْدَ تَفْتِيشٍ إنْ كانَ.

ويَجُوزُ جَعْلُ ”مِن“ اسْمًا بِمَعْنى بَعْضٍ عَلى رَأْيِ مَن رَأى ذَلِكَ مِنَ المُحَقِّقِينَ، فَتَكُونُ ”مِن“ مَفْعُولًا مُضافًا إلى ضَمِيرِ ”قَرْيَةٍ“، وتَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٨] الآيَةَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. والمَعْنى: ولَقَدْ تَرَكْنا مِنَ القَرْيَةِ آثارًا دالَّةً لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهم في الِاسْتِدْلالِ بِالآثارِ عَلى أحْوالِ أهْلِها، وهَذِهِ العَلامَةُ هي بَقايا قَرْيَتِهِمْ، مَغْمُورَةٌ بِماءِ بُحَيْرَةِ لُوطٍ، تَلُوحُ مِن تَحْتِ المِياهِ شَواهِدُ القَرْيَةِ وبَقايا لَوْنِ الكِبْرِيتِ والمَعادِنِ الَّتِي رُجِمَتْ بِها قَرْيَتُهم، وفي ذَلِكَ عِدَّةُ أدِلَّةٍ بِاخْتِلافِ مَدارِكِ المُسْتَدِلِّينَ.

ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ بِقَوْلِهِ: تَرَكْنا، أوْ يُجْعَلُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةً لِـ آيَةً.