﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهْوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾

هَذا مُقابِلُ قَوْلِهِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [لقمان: ٢٠] إلى قَوْلِهِ ﴿يَدْعُوهم إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: ٢١]، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ما وجَدُوا آباءَهم عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ فَوَقَعُوا في العَذابِ، وهَؤُلاءِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ آبائِهِمْ وأسْلَمُوا لِلَّهِ لَمّا دَعاهم إلى الإسْلامِ فَلَمْ يَصُدَّهم عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ إلْفٌ ولا تَقْدِيسُ آباءٍ، فَأُولَئِكَ تَعَلَّقُوا بِالأوْهامِ واسْتَمْسَكُوا بِها لِإرْضاءِ أهْوائِهِمْ، وهَؤُلاءِ اسْتَمْسَكُوا بِالحَقِّ إرْضاءً لِلدَّلِيلِ وأُولَئِكَ أرْضَوُا الشَّيْطانَ وهَؤُلاءِ اتَّبَعُوا رِضى اللَّهِ.

وإسْلامُ الوَجْهِ إلى اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِإفْرادِهِ تَعالى بِالعِبادَةِ كَأنَّهُ لا يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلى غَيْرِ اللَّهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ﴾ [البقرة: ١١٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ ﴿فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وتَعْدِيَةُ فِعْلِ يُسْلِمْ بِحَرْفٍ إلى هُنا دُونَ اللّامِ كَما في آيَتَيْ سُورَةِ البَقَرَةِ وسُورَةِ آلِ عِمْرانَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَجازٌ في الفِعْلِ بِتَشْبِيهِ نَفْسِ الإنْسانِ بِالمَتاعِ الَّذِي يَدْفَعُهُ صاحِبُهُ إلى آخَرَ ويَكِلُهُ إلَيْهِ. وحَقِيقَتُهُ أنْ يُعَدّى بِاللّامِ، أيْ وجْهَهُ وهو ذاتُهُ سالِمًا

صفحة ١٧٧

لِلَّهِ، أيْ خالِصًا لَهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ حاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

والإحْسانُ: العَمَلُ الصّالِحُ والإخْلاصُ في العِبادَةِ. وفي الحَدِيثِ «الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّهُ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» . والمَعْنى: ومَن يُسْلِمْ إسْلامًا لا نِفاقَ فِيهِ ولا شَكَّ فَقَدْ أخَذَ بِما يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الهُوِيِّ أوِ التَّزَلْزُلِ.

وقَوْلُهُ ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ مَضى الكَلامُ عَلى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ [البقرة: ٢٥٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وهو ثَناءٌ عَلى المُسْلِمِينَ.

وتَذْيِيلُ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ إيماءٌ إلى وعْدِهِمْ بِلِقاءِ الكَرامَةِ عِنْدَ اللَّهِ في آخِرِ أمْرِهِمْ وهو الحَياةُ الآخِرَةُ.

والتَّعْرِيفُ في الأُمُورِ لِلِاسْتِغْراقِ، وهو تَعْمِيمٌ يُرادُ بِهِ أنَّ أُمُورَ المُسْلِمِينَ الَّتِي هي مِن مَشْمُولاتِ عُمُومِ الأُمُورِ صائِرَةٌ إلى اللَّهِ ومَوْكُولَةٌ إلَيْهِ فَجَزاؤُهم بِالخَيْرِ مُناسِبٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ.

والعاقِبَةُ: الحالَةُ الخاتِمَةُ والنِّهايَةُ.

والأُمُورُ: جَمْعٌ أمْرٍ وهو الشَّأْنُ.

وتَقْدِيمُ (إلى اللَّهِ) لِلِاهْتِمامِ والتَّنْبِيهِ إلى أنَّ الرّاجِعَ إلَيْهِ يُلاقِي جَزاءَهُ وافِيًا.