صفحة ١٢٨

﴿ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهم أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾

عُقِّبَ وصْفُ حالِ المُشْرِكِينَ في الآخِرَةِ وما عُلِّلَ بِهِ مِن أنَّهم ألْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ فاتَّبَعُوا آباءَهم، بِتَنْظِيرِهِمْ بِمَن سَلَفُوا مِنَ الضّالِّينَ وتَذْكِيرًا لِلرَّسُولِ ﷺ بِذَلِكَ مَسْلاةً لَهُ عَلى ما يُلاقِيهِ مِن تَكْذِيبِهِمْ، واسْتِقْصاءً لَهم في العِبْرَةِ والمَوْعِظَةِ بِما حَلَّ بِالأُمَمِ قَبْلَهم، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى مَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها إكْمالًا لِلتَّعْلِيلِ، أيِ اتَّبَعُوا آثارَ آبائِهِمْ واقْتَدَوْا بِالأُمَمِ أشْياعِهِمْ.

ووَصَفَ الَّذِينَ ضَلُّوا قَبْلَهم بِأنَّهم ”﴿أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾“ لِئَلّا يَغْتَرَّ ضُعَفاءُ العُقُولِ بِكَثْرَةِ المُشْرِكِينَ ولا يَعْتَزُّوا بِها، لِيَعْلَمُوا أنَّ كَثْرَةَ العَدَدِ لا تُبَرِّرُ ضَلالَ الضّالِّينَ ولا خَطَأ المُخْطِئِينَ، وأنَّ الهُدى والضَّلالَ لَيْسا مِن آثارِ العَدَدِ كَثْرَةً وقِلَّةً ولَكِنَّهُما حَقِيقَتانِ ثابِتَتانِ مُسْتَقِلَّتانِ، فَإذا عَرَضَتْ لِإحْداهُما كَثْرَةً أوْ قِلَّةً فَلا تَكُونانِ فِتْنَةً لِقِصارِ الأنْظارِ وضُعَفاءِ التَّفْكِيرِ. قالَ تَعالى ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ والطَّيِّبُ ولَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة: ١٠٠] .

وأُكْمِلَتِ العِلَّةُ والتَّسْلِيَةُ والعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ أيْ: رُسُلًا يُنْذِرُونَهم، أيْ يُحَذِّرُونَهم ما سَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلَ ما أرْسَلْناكَ إلى هَؤُلاءِ. وخَصَّ المُرْسَلِينَ بِوَصْفِ المُنْذِرِينَ لِمُناسَبَةِ حالِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم وأمْثالِهِمْ. وضَمِيرُ ”فِيهِمْ“ راجِعٌ إلى ”الأوَّلِينَ“، أيْ أرْسَلْنا في الأوَّلِ مُنْذِرِينَ فاهْتَدى قَلِيلٌ وضَلَّ أكْثَرُهم.

وفَرَّعَ عَلى هَذا التَّوْجِيهِ الخِطابَ إلى الرَّسُولِ ﷺ تَرْشِيحًا لِما في الكَلامِ السّابِقِ مِن جانِبِ التَّسْلِيَةِ والتَّثْبِيتِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالكَلامِ لِتَهْدِيدِ المُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِكُلِّ مَن يَسْمَعُ القُرْآنَ فَشَمِلَ النَّبِيَّ ﷺ .

والأمْرُ بِالنَّظَرِ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ والتَّهْوِيلِ، فَإنْ أُرِيدَ بِالعاقِبَةِ عاقِبَتُهم في الدُّنْيا فالنَّظَرُ بَصَرِيٌّ، وإنْ أُرِيدَ عاقِبَتُهم في الآخِرَةِ كَما يَقْتَضِيهِ السِّياقُ فالنَّظَرُ قَلْبِيٌّ، ولا مانِعَ مِن إرادَةِ الأمْرَيْنِ واسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في المَعْنَيَيْنِ.

صفحة ١٢٩

والتَّعْرِيفُ في قَوْلِهِ ”المُنْذَرِينَ“ تَعْرِيفُ العَهْدِ، وهُمُ المُنْذَرُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمُ المُنْذِرُونَ، أيْ فَهُمُ الضّالُّونَ المُعَبَّرُ عَنْهم بِأنَّهم ”﴿أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾“، فالمَعْنى: فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الضّالِّينَ الَّذِينَ أنْذَرْناهم فَلَمْ يُنْذَرُوا، كَما فَعَلَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ألْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ فاتَّبَعُوهم، فَقَدْ تَحَقَّقَ اشْتِراكُ هَؤُلاءِ وأُولَئِكَ في الضَّلالِ، فَلا جَرَمَ أنْ تَكُونَ عاقِبَةُ هَؤُلاءِ كَعاقِبَةِ أُولَئِكَ.

وفِعْلُ النَّظَرِ مُعَلَّقٌ عَنْ مَعْمُولِهِ بِالِاسْتِفْهامِ، والِاسْتِفْهامُ تَعْجِيبِيٌّ لِلتَّفْظِيعِ.

واسْتُثْنِيَ ”﴿عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾“ مِنَ ”الأوَّلِينَ“ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا فَإنَّ عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ كانُوا مِن جُمْلَةِ المُنْذَرِينَ فَصَدَّقُوا المُنْذِرِينَ ولَمْ يُشارِكُوا المُنْذَرِينَ في عاقِبَتِهِمُ المَنظُورِ فِيها وهي عاقِبَةُ السُّوءِ. وتَقَدَّمَ اخْتِلافُ القُرّاءِ في فَتْحِ اللّامِ وكَسْرِها مِن قَوْلِهِ ”﴿المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ٤٠]“ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٣٩] ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ٤٠] .