﴿أمَن هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ وحْدَهم ”أمَن“ بِتَخْفِيفِ المِيمِ عَلى أنَّ الهَمْزَةَ دَخَلَتْ عَلى ”مَنِ“ المَوْصُولَةِ فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ هَمْزَةَ اسْتِفْهامٍ؛ و”مَن“ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ قَبْلَهُ مِن ذِكْرِ الكافِرِ في قَوْلِهِ ﴿وجَعَلَ لِلَّهِ أنْدادًا﴾ [الزمر: ٨] إلى قَوْلِهِ ﴿مِن أصْحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨] والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ والقَرِينَةُ عَلى إرادَةِ الإنْكارِ تَعْقِيبُهُ بِقَولِهِ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ لِظُهُورِ أنَّ ”هَلْ“ فِيهِ لِلِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ وبِقَرِينَةِ صِلَةِ المَوْصُولِ. تَقْدِيرُهُ: أمَّنْ هو قانِتٌ أفْضَلُ أمْ مَن هو كافِرٌ ؟ والِاسْتِفْهامُ حِينَئِذٍ تَقْرِيرِيٌّ ويُقَدَّرُ لَهُ مُعادِلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ .

وجَعَلَ الفَرّاءُ الهَمْزَةَ لِلنِّداءِ ومَن هو قانِتٌ: النَّبِيءُ ﷺ ناداهُ اللَّهُ بِالأوْصافِ العَظِيمَةِ الأرْبَعَةِ لِأنَّها أوْصافٌ لَهُ ونِداءٌ لِمَن هم مِن أصْحابِ هَذِهِ الأوْصافِ، يَعْنِي المُؤْمِنِينَ أنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، وعَلَيْهِ فَإفْرادُ ”قُلْ“ مُراعاةً لِلَّفْظِ ”مِنَ“ المُنادى.

وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ﴾ بِتَشْدِيدِ مِيمِ ”مَن“ عَلى أنَّهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِن كَلِمَتَيْنِ ”أمْ“ و”مَن“ فَأُدْغِمَتْ مِيمُ ”أمْ“ في مِيمِ ”مَن“ . وفي مَعْناهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ ”أمْ“ مُعادِلَةً لِهَمْزَةِ اسْتِفْهامٍ مَحْذُوفَةٍ مَعَ جُمْلَتِها دَلَّتْ عَلَيْها ”أمْ“ لِاقْتِضائِها مُعادِلًا. ودَلَّ عَلَيْها تَعْقِيبُهُ بِـ ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ لِأنَّ التَّسْوِيَةَ لا تَكُونُ إلّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فالتَّقْدِيرُ: أهَذا الجاعِلُ لِلَّهِ أنْدادًا

صفحة ٣٤٦

الكافِرُ خَيْرٌ أمَّنْ هو قانِتٌ، والِاسْتِفْهامُ حَقِيقِيٌّ والمَقْصُودُ لازِمُهُ، وهو التَّنْبِيهُ عَلى الخَطَأِ عِنْدَ التَّأمُّلِ.

والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ ”أمْ“ مُنْقَطِعَةً لِمُجَرَّدِ الإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ. و ”أمْ“ تَقْتَضِي اسْتِفْهامًا مُقَدَّرًا بَعْدَها. ومَعْنى الكَلامِ: دَعْ تَهْدِيدَهم بِعَذابِ النّارِ وانْتَقِلْ بِهِمْ إلى هَذا السُّؤالِ: الَّذِي هو قانِتٌ، وقائِمٌ، ويَحْذَرُ اللَّهَ ويَرْجُو رَحْمَتَهُ. والمَعْنى: أذَلِكَ الإنْسانُ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أنْدادًا هو قانِتٌ إلَخْ؛ والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّهَكُّمِ لِظُهُورِ أنَّهُ لا تَتَلاقى تِلْكَ الصِّفاتُ الأرْبَعُ مَعَ صِفَةِ ”جَعْلِهِ لِلَّهِ أنْدادًا“ .

والقانِتُ: العابِدُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والآناءُ: جَمْعُ أنًى؛ مِثْلُ أمْعاءٍ ومَعًى، وأقْفاءٍ وقَفًى، والأنى: السّاعَةُ، ويُقالُ أيْضًا: إنى، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] في سُورَةِ الأحْزابِ.

وانْتَصَبَ ”آناءَ“ عَلى الظَّرْفِ لِـ ”قانِتٌ“، وتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِقُنُوتِهِمْ لِأنَّ العِبادَةَ بِاللَّيْلِ أعْوَنُ عَلى تَمَحُّضِ القَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وأبْعَدُ عَنْ مُداخَلَةِ الرِّياءِ وأدَلُّ عَلى إيثارِ عِبادَةِ اللَّهِ عَلى حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرّاحَةِ والنَّوْمِ، فَإنَّ اللَّيْلَ أدْعى إلى طَلَبِ الرّاحَةِ فَإذا آثَرَ المَرْءُ العِبادَةَ فِيهِ اسْتَنارَ قَلْبُهُ بِحُبِّ التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعالى ﴿إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي أشَدُّ وطْئًا وأقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: ٦] فَلا جَرَمَ كانَ تَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ دالًّا عَلى أنَّ هَذا القانِتَ لا يَخْلُوَ مِنَ السُّجُودِ والقِيامِ أناءَ النَّهارِ بِدَلالَةِ فَحْوى الخِطابِ قالَ تَعالى ﴿إنَّ لَكَ في النَّهارِ سَبْحًا﴾ [المزمل: ٧] وبِذَلِكَ يَتِمُّ انْطِباقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلى حالِ النَّبِيءِ ﷺ .

وقَوْلُهُ ﴿ساجِدًا وقائِمًا﴾ حالانِ مُبَيِّنانِ لِـ ”قانِتٌ“ ومُؤَكِّدانِ لِمَعْناهُ. وجُمْلَةُ ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ حالانِ، فالحالُ الأوَّلُ والثّانِي لِوَصْفِ عَمَلِهِ الظّاهِرِ والجُمْلَتانِ اللَّتانِ هُما ثالِثٌ ورابِعٌ لِوَصْفِ عَمَلِ قَلْبِهِ وهو أنَّهُ بَيْنَ الخَوْفِ مِن سَيِّئاتِهِ وفَلَتاتِهِ وبَيْنَ الرَّجاءِ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ أنْ يُثِيبَهُ عَلى حَسَناتِهِ.

وفِي هَذا تَمامُ المُقابَلَةِ بَيْنَ حالِ المُؤْمِنِينَ الجارِيَةِ عَلى وفْقِ حالِ نَبِيِّهِمْ ﷺ وحالِ

صفحة ٣٤٧

أهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ اللَّهَ إلّا في نادِرِ الأوْقاتِ، وهي أوْقاتُ الِاضْطِرارِ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلا اهْتِمامَ لَهم إلّا بِعاجِلِ الدُّنْيا لا يَحْذَرُونَ الآخِرَةَ ولا يَرْجُونَ ثَوابَها.

والرَّجاءُ: الخَوْفُ مِن مَقاماتِ السّالِكِينَ، أيْ: أوْصافِهِمُ الثّابِتَةِ الَّتِي لا تَتَحَوَّلُ.

والرَّجاءُ: انْتِظارُ ما فِيهِ نَعِيمٌ ومُلاءَمَةٌ لِلنَّفْسِ. والخَوْفُ: انْتِظارُ ما هو مَكْرُوهٌ لِلنَّفْسِ. والمُرادُ هُنا: المُلاءَمَةُ الأُخْرَوِيَّةُ لِقَوْلِهِ ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ أيْ: يَحْذَرُ عِقابَ الآخِرَةِ؛ فَتَعَيَّنَ أنَّ الرَّجاءَ أيْضًا: المَأْمُولَ في الآخِرَةِ.

ولِلْخَوْفِ مَزِيَّتُهُ مِن زَجْرِ النَّفْسِ عَمّا لا يُرْضِي اللَّهَ، ولِلرَّجاءِ مَزِيَّتُهُ مِن حَثِّها عَلى ما يُرْضِي اللَّهَ وكِلاهُما أنِيسُ السّالِكِينَ.

وإنَّما يَنْشَأُ الرَّجاءُ عَلى وُجُودِ أسْبابِهِ لِأنَّ المَرْءَ لا يَرْجُو إلّا ما يَظُنُّهُ حاصِلًا ولا يَظُنُّ المَرْءُ أمْرًا إلّا إذا لاحَتْ لَهُ دَلائِلُهُ ولَوازِمُهُ، لِأنَّ الظَّنَّ لَيْسَ بِمُغالَطَةٍ، والمَرْءُ لا يُغالِطُ نَفْسَهُ، فالرَّجاءُ يَتْبَعُ السَّعْيَ لِتَحْصِيلِ المَرْجُوِّ؛ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] فَإنَّ تَرَقُّبَ المَرْءِ المَنفَعَةَ مِن غَيْرِ أسْبابِها فَذَلِكَ التَّرَقُّبُ يُسَمّى غُرُورًا.

وإنَّما يَكُونُ الرَّجاءُ أوِ الخَوْفُ ظَنًّا مَعَ تَرَدُّدٍ في المَظْنُونِ، أمّا المَقْطُوعُ بِهِ فَهو اليَقِينُ واليَأْسُ وكِلاهُما مَذْمُومٌ؛ قالَ تَعالى ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩] وقالَ ﴿إنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧] .

وقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ حُجَّةُ الإسْلامِ أبُو حامِدٍ في كِتابِ الرَّجاءِ والخَوْفِ مِن كِتابِ الإحْياءِ. ولِلَّهِ دَرُّ أبِي الحَسَنِ التِّهامِيِّ إذْ يَقُولُ:

وإذا رَجَوْتَ المُسْتَحِيلَ فَإنَّما تَبْنِي الرَّجاءَ عَلى شَفِيرٍ هارِ

وسُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَتَمادى في المَعاصِي ويَرْجُو فَقالَ: هَذا تَمَنٍّ وإنَّما الرَّجاءُ، قَوْلُهُ ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ .

وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أُرِيدَ بِـ ﴿مَن هو قانِتٌ﴾ أبُو بَكْرٍ، وقِيلَ عَمّارُ بْنُ

صفحة ٣٤٨

ياسِرٍ، وقِيلَ: أبُو ذَرٍّ، وقِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وهي رِواياتٌ ضَعِيفَةٌ ولا جَرَمَ أنَّ هَؤُلاءِ المَعْدُودِينَ هم مِن أحَقِّ مَن تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّلَةُ فَهي شامِلَةٌ لَهم ولَكِنَّ مَحْمَلَ المَوْصُولِ في الآيَةِ عَلى تَعْمِيمِ كُلِّ مَن يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنى الصِّلَةِ.

* * *

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ [الزمر: ٨] أثارُهُ وصْفُ المُؤْمِنِ الطّائِعِ، والمَعْنى: أعْلِمْهم يا مُحَمَّدُ بِأنَّ هَذا المُؤْمِنَ العالِمَ بِحَقِّ رَبِّهِ لَيْسَ سَواءٌ لِلْكافِرِ الجاهِلِ بِرَبِّهِ.

وإعادَةُ فِعْلِ ”قُلْ“ هُنا لِلِاهْتِمامِ بِهَذا المَقُولِ ولِاسْتِرْعاءِ الأسْماعِ إلَيْهِ.

والِاسْتِفْهامُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في الإنْكارِ. والمَقْصُودُ: إثْباتُ عَدَمِ المُساواةِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، وعَدَمِ المُساواةِ يُكَنّى بِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ. والمُرادُ: تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلى الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ والمُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجاهِدِينَ﴾ [النساء: ٩٥] أوْ بِالقَرِينَةِ كَما في قَوْلِهِ هُنا ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ إلَخْ؛ لِظُهُورِ أنَّ العِلْمَ كَمالٌ ولِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ ولِهَذا كانَ نَفْيُ الِاسْتِواءِ في هَذِهِ الآيَةِ أبْلَغُ مِن نَفْيِ المُماثَلَةِ في قَوْلِ النّابِغَةِ:

يُخْبِرُكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وعالِمُهُم ولَيْسَ جاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَن عَلِما

وفِعْلُ ”يَعْلَمُونَ“ في المَوْضِعَيْنِ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ.

والمَعْنى: الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ العِلْمِ، ولَيْسَ المَقْصُودُ الَّذِينَ عَلِمُوا شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتّى يَكُونَ مِن حَذْفِ المَفْعُولَيْنِ اخْتِصارًا إذْ لَيْسَ المَعْنى عَلَيْهِ، وقَدْ دَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ العِلْمِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ أيْ: هْلِ العُقُولُ، والعَقْلُ والعِلْمُ مُتَرادِفانِ، أيْ: لا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهم عَلِمٌ فَهم يُدْرِكُونَ حَقائِقَ الأشْياءِ عَلى ما هي عَلَيْهِ وتَجْرِي أعْمالُهم عَلى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ

صفحة ٣٤٩

لا يَعْلَمُونَ فَلا يُدْرِكُونَ الأشْياءَ عَلى ما هي عَلَيْهِ بَلْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الحَقائِقُ وتَجْرِي أعْمالُهم عَلى غَيْرِ انْتِظامٍ، كَحالِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا الحِجارَةَ آلِهَةً ووَضَعُوا الكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ. فَتَعَيَّنَ أنَّ المَعْنى: لا يَسْتَوِي مَن هو قانِتٌ أناءَ اللَّيْلِ يَحْذُرُ رَبَّهُ ويَرْجُوهُ، ومَن جَعَلَ لِلَّهِ أنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وإذْ قَدْ تَقَرَّرَ أنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا هُمُ الكُفّارُ؛ بِحُكْمِ قَوْلِهِ ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ [الزمر: ٨] ثَبَتَ أنَّ الَّذِينَ لا يَسْتَوُونَ مَعَهم هُمُ المُؤْمِنُونَ، أيْ: هم أفْضَلُ مِنهم، وإذْ تَقَرَّرَ أنَّ الكافِرِينَ مِن أصْحابِ النّارِ فَقَدِ اقْتَضى أنَّ المُفَضَّلِينَ عَلَيْهِمْ هم مِن أصْحابِ الجَنَّةِ.

وعَدَلَ عَنْ أنْ يَقُولَ: هَلْ يَسْتَوِي هَذا وذاكَ، إلى التَّعْبِيرِ بِالمَوْصُولِ إدْماجًا لِلثَّناءِ عَلى فَرِيقٍ ولِذَمِّ فَرِيقٍ بِأنَّ أهْلَ الإيمانِ أهْلُ عِلْمٍ وأهْلَ الشِّرْكِ أهْلُ جَهالَةٍ فَأغْنَتِ الجُمْلَةُ بِما فِيها مِن إدْماجٍ عَنْ ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هم أهْلُ الإيمانِ، قالَ تَعالى ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءِ﴾ [فاطر: ٢٨] والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم أهْلُ الشِّرْكِ الجاهِلُونَ؛ قالَ تَعالى ﴿قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الجاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] .

وفِي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّ الإيمانَ أخُو العِلْمِ لِأنَّ كِلَيْهِما نُورٌ ومَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وأنَّ الكُفْرَ أخُو الضَّلالِ لِأنَّهُ والضَّلالَ ظُلْمَةٌ وأوْهامٌ باطِلَةٌ.

هَذا ووُقُوعُ فِعْلِ يَسْتَوِي في حَيِّزِ النَّفْيِ يَكْسِبُهُ عُمُومَ النَّفْيِ لِجَمِيعِ جِهاتِ الِاسْتِواءِ. وإذْ قَدْ كانَ نَفْيُ الِاسْتِواءِ كِنايَةً عَنِ الفَضْلِ آلَ إلى إثْباتِ الفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلى وجْهِ العُمُومِ، فَإنَّكَ ما تَأمَّلْتَ مَقامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عالِمٌ وجاهِلٌ إلّا وجَدْتَ لِلْعالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعادَةِ ما لا تَجِدُهُ لِلْجاهِلِ ولِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقاماتٍ سِتَّةٍ هي جُلُّ وظائِفِ الحَياةِ الِاجْتِماعِيَّةِ.

المَقامُ الأوَّلُ: الِاهْتِداءُ إلى الشَّيْءِ المَقْصُودِ نَوالُهُ بِالعَمَلِ بِهِ وهو مَقامُ العَمَلِ، فالعالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إلى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ المَقْصُودَ بِيُسْرٍ وفي قُرْبٍ ويَعْلَمُ ما هو مِنَ العَمَلِ أوْلى بِالإقْبالِ عَلَيْهِ، وغَيْرُ العالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسالِكَهُ ويُضِيعُ زَمانَهُ في طَلَبِهِ، فَإمّا أنْ يَخِيبَ في سَعْيِهِ وإمّا أنْ يَنالَهُ بَعْدَ أنْ تَتَقاذَفَهُ الأرْزاءُ وتَنْتابَهُ النَّوائِبُ وتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الحَقائِقُ فَرُبَّما يَتَوَهَّمُ أنَّهُ بَلَغَ المَقْصُودَ حَتّى إذا انْتَبَهَ وجَدَ نَفْسَهُ في غَيْرِ مُرادِهِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩]

صفحة ٣٥٠

ومِن أجْلِ هَذا شاعَ تَشْبِيهُ العِلْمِ بِالنُّورِ والجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.

والمَقامُ الثّانِي: ناشِئٌ عَنِ الأوَّلِ وهو مَقامُ السَّلامَةِ مِن نَوائِبِ الخَطَأِ ومُزِلّاتِ المَذَلاتِ، فالعالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِن ذَلِكَ، والجاهِلُ يُرِيدُ السَّلامَةَ فَيَقَعُ في الهَلَكَةِ، فَإنَّ الخَطَأ قَدْ يُوقِعُ في الهَلاكِ مِن حَيْثُ طَلَبِ الفَوْزِ؛ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] إذْ مَثَّلَهم بِالتّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوائِدَ الرِّبْحِ مِن تِجارَتِهِ فَآبَ بِالخُسْرانِ ولِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الجاهِلِ بِخَبْطِ العَشْواءِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ العِلْمِ الوَسائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الوُقُوعَ فِيما لا طائِلَ تَحْتَهُ مِن أعْمالِهِمْ.

المَقامُ الثّالِثُ: مَقامُ أُنْسِ الِانْكِشافِ فالعالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ المَنافِعُ والمَضارُّ وتَنْكَشِفُ لَهُ الحَقائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِها واثِقًا بِصِحَّةِ إدْراكِهِ وكُلَّما انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كانَ كَمَن لَقِيَ أنِيسًا بِخِلافِ غَيْرِ العالِمِ بِالأشْياءِ فَإنَّهُ في حَيْرَةٍ مِن أمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ المُتَشابِهاتُ فَلا يَدْرِي ماذا يَأْخُذُ وماذا يَدَعُ، فَإنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وإنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وهَذا المَعْنى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ [البقرة: ٢٠] .

المَقامُ الرّابِعُ: مَقامُ الغِنى عَنِ النّاسِ بِمِقْدارِ العِلْمِ والمَعْلُوماتِ فَكُلَّما ازْدادَ عِلْمُ العالِمِ قَوِيَ غِناهُ عَنِ النّاسِ في دِينِهِ ودُنْياهُ.

المَقامُ الخامِسُ: الِالتِذاذُ بِالمَعْرِفَةِ، وقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرّازِيُّ اللَّذَّةُ في المَعارِفِ؛ وهي لَذَّةٌ لا تَقْطَعُها الكَثْرَةُ. وقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إذْ قالَ ﴿وما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٩] ﴿ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ﴾ [فاطر: ٢٠] ﴿ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ﴾ [فاطر: ٢١] فَإنَّ الجُلُوسَ في الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أهْلُ البِلادِ الحارَّةِ.

المَقامُ السّادِسُ: صُدُورُ الآثارِ النّافِعَةِ في مَدى العُمْرِ مِمّا يُكْسِبُ ثَناءَ النّاسِ في العاجِلِ وثَوابَ اللَّهِ في الآجِلِ. فَإنَّ العالِمَ مَصْدَرُ الإرْشادِ والعِلْمِ ودَلِيلٌ عَلى الخَيْرِ وقائِدٌ إلَيْهِ؛ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] والعِلْمُ عَلى مُزاوَلَتِهِ ثَوابٌ جَزِيلٌ، قالَ النَّبِيءُ ﷺ «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهم إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ» .

صفحة ٣٥١

وعَلى بَثِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ، قالَ النَّبِيءُ ﷺ «إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وعِلْمٍ بَثَّهُ في الصُّدُورِ، ووَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» .

فَهَذا التَّفاوُتُ بَيْنَ العالِمِ والجاهِلِ في صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْناها مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِواءِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وتَتَشَعَّبُ مِن هَذِهِ المَقاماتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وهي عَلى كَثْرَتِها تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ.

وقَوْلُهُ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ واقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِ الِاسْتِواءِ بَيْنَ العالِمِ وغَيْرِهِ المَقْصُودُ مِنهُ تَفْضِيلُ العالِمِ والعِلْمِ، فَإنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ مَرْكَبَةٌ مِن حَرْفَيْنِ ”إنْ“ و”ما“ الكافَّةُ أوِ النّافِيَةُ فَكانَتْ إنْ فِيهِ مُفِيدَةٌ لِتَعْلِيلِ ما قَبْلَها مُغْنِيَةً غَناءَ فاءِ التَّعْلِيلِ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ ”إنِ“ المُفْرَدَةِ و”إنَّ“ المُرَكَّبَةَ مَعَ ”ما“، بَلْ أفادَها التَّرْكِيبُ زِيادَةَ تَأْكِيدٍ وهو نَفْيُ الحُكْمِ الَّذِي أثْبَتَتْهُ ”إنَّ“ عَنْ غَيْرِ مَن أثْبَتَتْهُ لَهُ.

وقَدْ أُخِذَ في تَعْلِيلِ ذَلِكَ جانِبُ إثْباتِ التَّذْكِيرِ لِلْعالَمِينَ، ونَفْيُهُ مِن غَيْرِ العالَمَيْنِ بِطَرِيقِ الحَصْرِ لِأنَّ جانِبَ التَّذْكِيرِ هو جانِبُ العَمَلِ الدِّينِيِّ وهو المَقْصِدُ الأهَمُّ في الإسْلامِ لِأنَّ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ والسَّعادَةُ الأبَدِيَّةُ؛ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» .

والألْبابُ: العُقُولُ، وأُولُو الألْبابِ: هم أهلُ العُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وهم: أهْلُ العِلْمِ. فَلَمّا كانَ أهْلُ العِلْمِ هم أهْلُ التَّذَكُّرِ دُونَ غَيْرِهِمْ أفادَ عَدَمَ اسْتِواءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ كَلامًا مُسْتَقِلًّا.