Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ .
اسْتِئْنافٌ وهو مِن قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إلى المَقْصُودِ بَعْدَ المُقَدِّمَةِ فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ﴾ [الزمر: ٢٧] مَثَلٍ تَوْطِئَةٌ لِهَذا المَثَلِ المَضْرُوبِ لِحالِ أهْلِ الشِّرْكِ وحالِ أهْلِ التَّوْحِيدِ، وفي هَذا الِانْتِقالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهم بِما ضُرِبَ لَهم في القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ عَلى وجْهِ إجْمالِ العُمُومِ اسْتِقْصاءً في التَّذْكِيرِ ومُعاوَدَةً لِلْإرْشادِ، وتَخَلُّصًا مَن وصْفِ القُرْآنِ بِأنَّ فِيهِ مِن كُلِّ مَثَلٍ، إلى تَمْثِيلِ حالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحالٍ خاصٍّ.
فَهَذا المَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ﴾ [الزمر: ٢٢] إلى قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] فَهو مَثَلٌ لِحالِ مَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهم لِلْإسْلامِ وحالِ مَن قَسَتْ قُلُوبُهم.
ومَجِيءُ فِعْلِ ”ضَرْبَ اللَّهُ“ بِصِيغَةِ الماضِي مَعَ أنَّ ضَرْبَ هَذا المَثَلِ ما حَصَلَ إلّا في زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الحالِ مِن زَمَنِ الماضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إلى عِلْمِ هَذا المَثَلِ فَيُجْعَلُ كالإخْبارِ عَنْ أمْرٍ حَصَلَ لِأنَّ النُّفُوسَ أرْغَبُ في عَمَلِهِ كَقَوْلِ المُثَوِّبِ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ. وفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ أمْرٌ مُحَقَّقُ الوُقُوعِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ [النحل: ١١٢] في سُورَةِ النَّحْلِ.
أمّا صاحِبُ الكَشّافِ فَجَعَلَ فِعْلَ ”ضَرَبَ“ مُسْتَعْمِلًا في مَعْنى الأمْرِ إذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهم مَثَلًا وقُلْ لَهم ما تَقُولُونَ في رَجُلٍ مِنَ المَمالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكاءُ، إلى آخَرِ كَلامِهِ، فَكانَ ظاهِرُ كَلامِهِ أنَّ الخَبَرَ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شارِحُوهُ الطِّيبِيُّ والقَزْوِينِيُّ والتِّفْتَزانِيُّ بِما حاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أنَّهُ أرادَ أنَّ النَّبِيءَ
صفحة ٤٠٠
ﷺ لَمّا سَمِعَ قَوْلَهُ ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر: ٢٧] عَلِمَ أنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَثَلٌ مِن أمْثالِ القُرْآنِ فَأنْبَأهُ اللَّهُ بِصِدْقِ ما عَلِمَهُ وجَعَلَهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأنَّهُ ماضٍ.ولِيُلائِمَ تَوْجِيهَ الِاسْتِفْهامِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾ (فَإنَّهُ سُؤالُ تَبْكِيتٍ) فَتَلْتَئِمُ أطْرافُ نَظْمِ الكَلامِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ مِن إلْقاءِ ضَرْبِ المَثَلِ بِصِيغَةِ الأمْرِ إلى إلْقائِهِ بِصِيغَةِ المُضِيِّ لِإفادَةِ صِدْقِ عِلْمِ النَّبِيءِ ﷺ وكُلُّ هَذا أدَقُّ مَعْنًى وأنْسَبُ بِبَلاغَةِ القُرْآنِ مِن قَوْلِ مَن جَعَلَ المُضِيَّ في فِعْلِ ”ضَرَبَ“ عَلى حَقِيقَتِهِ وقالَ: إنَّ مَعْناهُ: ضَرْبُ المَثَلِ في عِلْمِهِ فَأخْبِرْ بِهِ قَوْمَكَ.
فالَّذِي دَعا الزَّمَخْشَرِيَّ إلى سُلُوكِ هَذا المَعْنى في خُصُوصِ هَذِهِ الآيَةِ هو رَعْيُ مُناسَباتٍ اخْتُصَّ بِها سِياقُ الكَلامِ الَّذِي وقَعَتْ فِيهِ، ولا داعِيَ إلَيْهِ في غَيْرِها مِن نَظائِرِ صِيغَتِها مِمّا لَمْ يُوجَدْ لِلَّهِ فِيهِ مُقْتَضٍ لِنَحْوِ هَذا المَحْمَلِ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَتَأتّى في نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً﴾ [إبراهيم: ٢٤] كَما في سُورَةِ إبْراهِيمَ، وقَدْ أشَرْنا إلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ [النحل: ١١٢] في سُورَةِ النَّحْلِ.
وقَدْ يُقالُ فِيهِ وفي نَظائِرِهِ: إنَّ العُدُولَ عَنْ أنْ يُصاغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ كَما في قَوْلِهِ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا أصْحابَ القَرْيَةِ﴾ [يس: ١٣] ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ [الكهف: ٣٢] ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٤٥] إلى أنْ صِيَغَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ هو التَّوَسُّلُ إلى إسْنادِهِ إلى اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ المَثَلِ كَما أشَرْنا إلَيْهِ في سُورَةِ النَّحْلِ.
وإسْنادُ ضَرْبِ المَثَلِ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ كَوَّنَ نَظْمَهُ بِدُونِ واسِطَةٍ ثُمَّ أوْحى بِهِ إلى رَسُولِهِ ﷺ فالقُرْآنُ كُلُّهُ مِن جَعْلِ اللَّهِ سَواءٌ في ذَلِكَ أمْثالُهُ وغَيْرُها، وهو كُلُّهُ مَأْمُورٌ رَسُولُهُ ﷺ بِتَبْلِيغِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ لَهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فاضْرِبْهُ لِلنّاسِ وبَيِّنْهُ لَهم، إذِ المَقْصُودُ مِن ضَرْبِ هَذا المَثَلِ مُحاجَّةُ المُشْرِكِينَ وتَبْكِيتُهم بِهِ في كَشْفِ سُوءِ حالَتِهِمْ في الإشْراكِ، إذْ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَجْرِيَ الكَلامُ عَلى طَرِيقَةِ نَظائِرِهِ كَقَوْلِهِ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا أصْحابَ القَرْيَةِ﴾ [يس: ١٣] وكَذَلِكَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الأمْرِ في نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] ﴿قُلْ يا عِبادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ [الزمر: ١٠] ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ [الزمر: ١١] ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ﴾ [الزمر: ١٤] ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ﴾ [الزمر: ١٥] ﴿فَبَشِّرْ عِبادِي﴾ [الزمر: ١٧] .
صفحة ٤٠١
وقَدْ يَتَطَلَّبُ وجْهُهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ ما صِيغَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ وما صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ بِأنَّ ما صِيغَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ كانَ في مَقامٍ أهَمَّ لِأنَّهُ إمّا تَمْثِيلٌ لِإبْطالِ الإشْراكِ، وإمّا لِوَعِيدِ المُشْرِكِينَ، وإمّا لِنَحْوِ ذَلِكَ، خِلافًا لِما صِيغَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ فَإنَّهُ كائِنٌ في مَقامِ العِبْرَةِ والمَوْعِظَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أوْ أهْلِ الكِتابِ، وهَذا ما أشَرْنا إلَيْهِ إجْمالًا في سُورَةِ النَّحْلِ.وقَوْلُهُ ﴿رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ﴾ وما بَعْدَهُ في مَوْضِعِ البَيانِ لِـ ”مَثَلًا“ .
وجَعْلُ المُمَثَّلِ بِهِ حالَةَ رَجُلٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرازِ عَنِ امْرَأةٍ أوْ طِفْلٍ ولَكِنْ لِأنَّ الرَّجُلَ هو الَّذِي يَسْبِقُ إلى أذْهانِ النّاسِ في المُخاطَباتِ والحِكاياتِ، ولِأنَّ ما يُرادُ مِنَ الرِّجالِ مِنَ الأعْمالِ أكْثَرُ مِمّا يُرادُ مِنَ المَرْأةِ والصَّبِيِّ، ولِأنَّ الرَّجُلَ أشَدُّ شُعُورًا بِما هو فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ أوِ الكَدِّ، وأمّا المَرْأةُ والصَّبِيُّ فَقَدْ يَغْفُلانِ ويَلْهَيانِ.
وجُمْلَةُ ”فِيهِ شُرَكاءُ“ نَعْتٌ لِـ ”رَجُلًا“، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى ”شُرَكاءُ“ لِأنَّ خَبَرَ النَّكِرَةِ يَحْسُنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْها إذا وُصِفَتْ، فَإذا لَمْ تُوصَفْ وجَبَ تَقْدِيمُ الخَبَرِ لِكَراهَةِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ.
ومَعْنى ”فِيهِ شُرَكاءُ“: في مُلْكِهِ شُرَكاءُ.
والتَّشاكُسُ: شِدَّةُ الِاخْتِلافِ؛ وشِدَّةُ الِاخْتِلافِ في الرَّجُلِ: الِاخْتِلافُ في اسْتِخْدامِهِ وتَوْجِيهِهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”سَلَمًا“ بِفَتْحِ السِّينِ وفَتْحِ اللّامِ بَعْدَها مِيمٌ؛ وهو اسْمُ مَصْدَرِ: سَلِمَ لَهُ، إذا خَلَصَ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ ”سالِمًا“ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ وهو مِن: سَلِمَ، إذا خَلَصَ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ ولا وجْهَ لَهُ، والحَقُّ أنَّهُما سَواءٌ كَما أيَّدَهُ النَّحاسُ وأبُو حاتِمٍ، والمَعْنى: أنَّهُ لا شَرِكَةَ فِيهِ لِلرَّجُلِ.
وهَذا تَمْثِيلٌ لِحالِ المُشْرِكِ في تَقَسُّمِ عَقْلِهِ بَيْنَ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ فَهو في حَيْرَةٍ وشَكٍّ مِن رِضى بَعْضِهِمْ عَنْهُ وغَضَبِ بَعْضٍ، وفي تَرَدُّدِ عِبادَتِهِ إنْ أرْضى بِها أحَدَ آلِهَتِهِ، لَعَلَّهُ يُغْضِبُ بِها ضِدَّهُ، فَرَغَباتُهم مُخْتَلِفَةٌ وبَعْضُ القَبائِلِ أوْلى بِبَعْضِ الأصْنامِ مِن بَعْضٍ، قالَ تَعالى ﴿ولَعَلا بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: ٩١] ويَبْقى هو ضائِعًا لا يَدْرِي عَلى
صفحة ٤٠٢
أيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، فَوَهْمُهُ شُعاعٌ، وقَلْبُهُ أوْزاعٌ، بِحالِ مَمْلُوكٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مالِكُونَ لا يَخْلُونَ مِن أنْ يَكُونَ بَيْنَهُمُ اخْتِلافٌ وتَنازُعٌ، فَهم يَتَعاوَرُونَهُ في مِهَنٍ شَتّى ويَتَدافَعُونَهُ في حَوائِجِهِمْ، فَهو حَيْرانُ في إرْضائِهِمْ تَعْباْنُ في أداءِ حُقُوقِهِمْ لا يَسْتَقِلُّ لَحْظَةً ولا يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِراحَةٍ.ويُقابِلُهُ تَمْثِيلُ حالِ المُسْلِمِ المُوَحِّدِ يَقُومُ بِما كَلَّفَهُ رَبُّهُ عارِفًا بِمَرْضاتِهِ مُؤَمِّلًا رِضاهُ وجَزاءَهُ، مُسْتَقِرَّ البالِ، بِحالِ العَبْدِ المَمْلُوكِ الخالِصِ لِمالِكٍ واحِدٍ قَدْ عَرَفَ مُرادَ مَوْلاهُ وعَلِمَ ما أوْجَبَهُ عَلَيْهِ؛ فَفَهْمُهُ واحِدٌ وقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ.
وكَذَلِكَ الحالُ في كُلِّ مُتَّبِعِ حَقٍّ ومُتَّبِعِ باطِلٍ فَإنَّ الحَقَّ هو المُوافِقُ لِما في الوُجُودِ والواقِعِ، والباطِلُ مُخالِفٌ لِما في الواقِعِ، فَمُتَّبِعُ الحَقِّ لا يَعْتَرِضُهُ ما يُشَوِّشُ عَلَيْهِ بِاللَّهِ ولا ما يُثْقِلُ عَلَيْهِ أعْمالَهُ، ومُتَّبِعُ الباطِلِ يَتَعَثَّرُ بِهِ في مَزالِقِ الخُطى ويَتَخَبَّطُ في أعْمالِهِ بَيْنَ تَناقُضٍ وخَطَأٍ.
ثُمَّ قالَ ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾ أيْ: هَلْ يَكُونُ هَذانِ الرَّجُلانِ المُشَبَّهانِ مُسْتَوِيَيْنِ حالًا بَعْدَ ما عَلِمْتُمْ مِنِ اخْتِلافِ حالَيِ المُشَبَّهِينَ بِهِما.
والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنْكارِيًّا، وجِيءَ فِيهِ بِـ ”هَلْ“ لِتَحْقِيقِ التَّقْرِيرِ أوِ الإنْكارِ.
وانْتُصِبَ ”مَثَلًا“ عَلى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ ”يَسْتَوِيانِ“ .
والمَثَلُ: الحالُ. والتَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي حالاهُما، والِاسْتِواءُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ، وإنَّما أُفْرِدَ التَّمْيِيزُ المُرادُ بِهِ الجِنْسُ، وقَدْ عُرِفَ التَّعَدُّدُ مِن فاعِلِ ”يَسْتَوِيانِ“ ولَوْ أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ما وقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ لَقِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلاهُما.
وجُمْلَةُ ”الحَمْدُ لِلَّهِ“ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ جَوابًا لِلِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ بِناءً عَلى أنَّ أحَدَ الظَّرْفَيْنِ المُقَرَّرِ عَلَيْهِما مُحَقَّقُ الوُقُوعِ لا يَسَعُ المُقَرَّرُ عَلَيْهِ إلّا الإقْرارَ بِهِ فَيُقَدَّرُونَ: أنَّهم أقَرُّوا بِعَدَمِ اسْتِوائِهِما في الحالَةِ، أيْ: بِأنَّ أحَدَهُما أفْضَلُ مِنَ الآخَرِ، فَإنَّ مِثْلَ هَذا الِاسْتِفْهامِ لا يَنْتَظِرُ السّائِلُ جَوابًا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ يَصِحُّ أنْ يَتَوَلّى الجَوابَ عَنْهُ قَبْلَ أنْ يُجِيبَ المَسْئُولُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ [النبإ: ١] ﴿عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ﴾ [النبإ: ٢] وقَدْ يُبْنى عَلى أنَّ المَسْئُولَ اعْتَرَفَ فَيُؤْتى بِما يُناسِبُ اعْتِرافَهُ كَما هُنا،
صفحة ٤٠٣
فَكَأنَّهم قالُوا: لا يَسْتَوِيانِ، وذَلِكَ هو ما يَبْتَغِيهِ المُتَكَلِّمُ مِنِ اسْتِفْهامِهِ، فَلَمّا وافَقَ جَوابُهم بُغْيَةَ المُسْتَفْهِمِ حَمِدَ اللَّهَ عَلى نُهُوضِ حُجَّتِهِ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا، فَمَوْقِعُها كَمَوْقِعِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وتَكُونُ جُمْلَةُ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ قَرِينَةً عَلى أنَّهم نُزِّلُوا مَنزِلَةَ مَن عَلِمَ فَأقَرَّ وأنَّهم لَيْسُوا كَذَلِكَ في نَفْسِ الأمْرِ.ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إذا جُعِلَ الِاسْتِفْهامُ إنْكارِيًّا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الإنْكارِ وبَيْنَ الإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ في قَوْلِهِ ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ لا يَعْلَمُونَ عَدَمَ اسْتِواءِ الحالَتَيْنِ ولَوْ عَلِمُوا لاخْتارُوا لِأنْفُسِهِمُ الحُسْنى مِنهُما، ولَما أصَرُّوا عَلى الإشْراكِ.
وأفادَ هَذا أنَّ ما انْتَحَلُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وتَكاذِيبِهِ لا يَمُتُّ إلى العِلْمِ بِصِلَةٍ فَهو جَهالَةٌ واخْتِلاقٌ. و”بَلْ“ لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ. وأُسْنِدَ عَدَمُ العِلْمِ لِأكْثَرِهِمْ لِأنَّ أكْثَرَهم عامَّةٌ أتْباعٌ لِزُعَمائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمُ الإشْراكَ وشَرائِعَهُ انْتِفاعًا بِالجاهِ والثَّناءِ الكاذِبِ بِحَيْثُ غَشّى ذَلِكَ عَلى عَمَلِهِمْ.