﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ وأوْرَثَنا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ﴾ .

عَطْفُ هَذا الكَلامِ يُؤْذِنُ بِأنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ غَيْرُ جَوابٍ لِقَوْلِ المَلائِكَةِ بَلْ حَمِدُوا اللَّهَ عَلى ما مَنَحَهم مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي وعَدَهم بِهِ، وإنَّما وعَدَهم بِهِ بِعُنْوانِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ فَلَمّا كانُوا أصْحابَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ جَعَلُوا وعْدَ العامِلِينَ لِلصّالِحاتِ وعْدًا لَهم لِتَحَقُّقِ المُعَلَّقِ عَلَيْهِ الوَعْدُ فِيهِمْ.

ومَعْنى (صَدَقَنا) حَقَّقَ لَنا وعْدَهُ.

صفحة ٧٣

وقَوْلُهُ ﴿وأوْرَثَنا الأرْضَ﴾ كَلامٌ جَرى مَجْرى المَثَلِ لِمَن ورِثَ المُلْكَ قالَ تَعالى ﴿أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] فَعَبَّرَ القُرْآنُ عَنْ مُرادِ أهْلِ الجَنَّةِ المُخْتَلِفِي اللُّغاتِ بِهَذا التَّرْكِيبِ العَرَبِيِّ الدّالِّ عَلى مَعانِي ما نَطَقُوا بِهِ مِن لُغاتِهِمُ المُخْتَلِفَةِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أهْلُ الجَنَّةِ نَطَقُوا بِكَلامٍ عَرَبِيٍّ ألْهَمَهم اللَّهُ إيّاهُ فَقَدْ جاءَ في الآثارِ أنَّ كَلامَ أهْلِ الجَنَّةِ بِالعَرَبِيَّةِ الفُصْحى. ولَفْظُ الأرْضِ جارٍ عَلى مُراعاةِ التَّرْكِيبِ التَّمْثِيلِيِّ لِأنَّ الأرْضَ قَدْ اضْمَحَلَّتْ أوْ بُدِّلَتْ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَفْظُ الأرْضِ مُسْتَعارًا لِلْجَنَّةِ لِأنَّها قَرارُهم كَما أنَّ الأرْضَ قَرارُ النّاسِ في الحَياةِ الأُولى.

وإطْلاقُ الإيراثِ اسْتِعارَةٌ تَشْبِيهًا لِلْإعْطاءِ بِالتَّوْرِيثِ في سَلامَتِهِ مِن تَعَبِ الِاكْتِسابِ.

والتَّبَؤُّ: السُّكْنى والحُلُولُ، والمَعْنى: أنَّهم يَتَنَقَّلُونَ في الغُرَفِ والبَساتِينِ تَفَنُّنًا في النَّعِيمِ.

وأرادُوا بِ (العامِلِينَ) أنْفُسَهم، أيْ عامِلِي الخَيْرِ، وهَذا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالحَقائِقِ فَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، لِأنَّ ذَلِكَ العالَمَ عالَمُ الحَقائِقِ الكامِلَةِ المُجَرَّدَةِ عَنْ شَوْبِ النَّقائِصِ.

واعْلَمْ أنَّ الآياتِ وصَفَتْ مَصِيرَ أهْلِ الكُفْرِ ومَصِيرَ المُتَّقِينَ يَوْمَ الحَشْرِ وسَكَتَتْ عَنْ مَصِيرِ أهْلِ المَعاصِي الَّذِينَ لَمْ يَلْتَحِقُوا بِالمُتَّقِينَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الكَبائِرِ وغُفْرانِ الصَّغائِرِ بِاجْتِنابِ الكَبائِرِ، وهَذِهِ عادَةُ القُرْآنِ في الإعْراضِ عَنْ وصْفِ رِجالٍ مِنَ الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ بِمَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ إلّا عِنْدَ الِاقْتِضاءِ لِبَيانِ الأحْكامِ، فَإنَّ الكَبائِرَ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ فَما كانَ لِأهْلِ الإسْلامِ أنْ يَقَعُوا فِيها فَإذا وقَعُوا فِيها فَعَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ فَإذا ماتُوا غَيْرَ تائِبِينَ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْصِي لَهم حَسَناتِ أعْمالِهِمْ وطَيِّباتِ نَواياهم فَيُقاصُّهم بِها إنْ شاءَ، ثُمَّ هم فِيما دُونَ ذَلِكَ يَقْتَرِبُونَ مِنَ العِقابِ بِمِقْدارِ اقْتِرابِهِمْ مِن حالِ أهْلِ الكُفْرِ في وفْرَةِ المَعاصِي فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إلى النّارِ، أوْ إلى الجَنَّةِ، ومِنهم أهْلُ الأعْرافِ. وقَدْ تَقَدَّمَتْ نُبْذَةٌ مِن هَذا الشَّأْنِ في سُورَةِ الأعْرافِ.