﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ إضْرابٌ عَنْ قَوْلِهِ ”﴿لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٨]“، وهو إضْرابُ إبْطالٍ، أيْ لَمْ يَحْصُلْ ما رَجاهُ إبْراهِيمُ مِن رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إلى الكَلِمَةِ الَّتِي أوْصاهم بِرَعْيِها. فَإنَّ أقْدَمَ أُمَّةٍ مِن عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إلى كَلِمَتِهِ، وهَؤُلاءِ هُمُ العَرَبُ الَّذِينَ أشْرَكُوا وعَبَدُوا الأصْنامَ.

وبَعْدَ (بَلْ) كَلامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الإبْطالُ وما بَعْدَ الإبْطالِ، وتَقْدِيرُ المَحْذُوفِ: بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلاءِ وآباؤُهُمُ الأوَّلُونَ إلى التَّوْحِيدِ ولَمْ يَتَبَرَّأُوا مِن عِبادَةِ الأصْنامِ ولا أخَذُوا بِوِصايَةِ إبْراهِيمَ.

وجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِسائِلٍ يَسْألُ عَمّا عامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزاءً عَلى تَفْرِيطِهِمْ في وِصايَةِ إبْراهِيمَ وهَلّا اسْتَأْصَلَهم. كَما قالَ ﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ﴾ [الزخرف: ٢٣] إلى قَوْلِهِ ﴿فانْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٥]، فَأُجِيبَ بِأنَّ اللَّهَ مَتَّعَهم بِالبَقاءِ إلى أنْ يَجِيئَهم رَسُولٌ بِالحَقِّ وذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَها اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِها وُجُودُ العَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وتَأخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلى الإبّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ.

وبِهَذا الِاسْتِئْنافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إلى ما بَدا مِنَ المُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ

صفحة ١٩٧

ﷺ مِن فَظِيعِ تَوَغُّلِهِمْ في الإعْراضِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ أبُوهم فَكانَ مُوقِعُ (بَلْ) في هَذِهِ الآيَةِ أبْلَغَ مِن مَوْقِعِها في قَوْلِ لَبِيدٍ:

بَلْ ما تَذَكَّرُ مِن نَوارَ وقَدْ نَأتْ وتَقَطَّعَتْ أسْبابُها ورِمامُها

إذْ كانَ انْتِقالُهُ اقْتِضابًا وكانَ هُنا تَخَلُّصًا حَسَنًا.

وهَؤُلاءِ إشارَةٌ إلى غَيْرِ مَذْكُورٍ في الكَلامِ، وقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أنَّ مُصْطَلَحَ القُرْآنِ أنْ يُرِيدَ بِمِثْلِهِ مُشْرِكِي العَرَبِ، ولَمْ أرَ مَنِ اهْتَدى لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وقَدْ قَدَّمْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] في سُورَةِ النِّساءِ وفي مَواضِعَ أُخْرى.

والمُرادُ بِآبائِهِمْ آباؤُهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا عِبادَةَ الأصْنامِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ والَّذِينَ عَبَدُوها مِن بَعْدِهِ. وتَمْتِيعُ آبائِهِمْ تَمْهِيدٌ لِتَمْتِيعِ هَؤُلاءِ، ولِذَلِكَ كانَتْ غايَةُ التَّمْتِيعِ مَجِيءَ الرَّسُولِ فَإنَّ مَجِيئَهُ لِهَؤُلاءِ.

والتَّمْتِيعُ هُنا التَّمْتِيعُ بِالإمْهالِ وعَدَمِ الِاسْتِئْصالِ كَما تَدُلُّ عَلَيْهِ الغايَةُ في قَوْلِهِ ﴿حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ .

والمُرادُ بِـ ”الحَقِّ“ القُرْآنُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ﴾ [الزخرف: ٣٠] وقَوْلُهُ ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] وهَذِهِ الآيَةُ ثَناءٌ راجِعٌ عَلى القُرْآنِ مُتَّصِلٌ بِالثَّناءِ عَلَيْهِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ.

فَإنَّهُ لَمّا جاءَ القُرْآنُ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ انْتَهى التَّمْتِيعُ وأُخِذُوا بِالعَذابِ تَدْرِيجًا إلى أنْ كانَ عَذابُ يَوْمِ بَدْرٍ ويَوْمِ حُنَيْنٍ، وهَدى اللَّهِ لِلْإسْلامِ مَن بَقِيَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وأيّامَ الوُفُودِ. وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [هود: ٤٨] في سُورَةِ هُودٍ.

والحَقُّ الَّذِي جاءَهم هو: القُرْآنُ، والرَّسُولُ المُبِينُ: مُحَمَّدٌ ﷺ . ووَصْفُهُ بِـ ”مُبِينٍ“ لِأنَّهُ أوْضَحَ الهُدى ونَصَبَ الأدِلَّةَ وجاءَ بِأفْصَحِ كَلامٍ. فالإبانَةُ راجِعَةٌ إلى مَعانِي دِينِهِ وألْفاظِ كِتابِهِ.

والحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ أرادَ أنْ يُشَرِّفَ هَذا الفَرِيقَ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ بِالِانْتِشالِ

صفحة ١٩٨

مِن أوْحالِ الشِّرْكِ والضَّلالِ إلى مَناهِجِ الإيمانِ والإسْلامِ واتِّباعِ أفْضَلِ الرُّسُلِ وأفْضَلِ الشَّرائِعِ، فَيَجْبُرَ لِأُمَّةٍ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ ما فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الِاقْتِداءِ بِأبِيهِمْ حَتّى يَكْمُلَ لِدَعْوَتِهِ شَرَفُ الِاسْتِجابَةِ.

والمَقْصُودُ مِن هَذا زِيادَةُ الإمْهالِ لَهم لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ كَما قالَ تَعالى ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٥] ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ﴾ [الأنعام: ١٥٦] ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهم فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم وهُدًى ورَحْمَةٌ فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٧] .

ويَسْتَرْوِحُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: ٢٨] إلى قَوْلِهِ وآباءَهم أنَّ آباءَ النَّبِيءِ ﷺ في عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وأنَّهم بَعْضٌ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ ولَمْ يَجْهَرُوا بِمُخالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقاءَ الفِتْنَةِ. ولا عَجَبَ في ذَلِكَ فَإنَّ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ إنَّما وجَبَ بِالشَّرْعِ ولَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ شَرْعٌ.