﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ وإنّا بِهِ كافِرُونَ﴾

تَعْجِيبٌ مِن حالِ تَغافُلِهِمْ، أيْ قَدْ كانَ لَهم بَعْضُ العُذْرِ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ ﷺ والقُرْآنِ؛ لِأنَّ لِلْغَفَلاتِ المُتَقادِمَةِ غِشاوَةً تُصَيِّرُ الغَفْلَةُ جَهالَةً، فَكانَ الشَّأْنُ أنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أبِيهِمْ إبْراهِيمَ، ولَكِنَّهم لَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا: هَذا سِحْرٌ، أيْ قالُوا لِلرَّسُولِ: هَذا ساحِرٌ، فازْدادُوا رَيْنًا عَلى رَيْنٍ.

فالخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ لا في إفادَةِ صُدُورِ هَذا القَوْلِ مِنهم لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهم ولِلْمُسْلِمِينَ.

صفحة ١٩٩

وفِي تَعْقِيبِ الغايَةِ بِهَذا الكَلامِ إيذانٌ بِأنَّ تَمْتِيعَهم أصْبَحَ عَلى وشْكِ الِانْتِهاءِ.

فَجُمْلَةُ ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ﴾ [الزخرف: ٢٩] فَإنَّ (لَمّا) تَوْقِيتِيَّةٌ فَهي في قُوَّةِ (حَتّى) الغائِيَّةِ كَأنَّهُ قِيلَ: مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم، فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ عَقِبَ ذَلِكَ التَّمْتِيعِ لَمْ يَسْتَفِيقُوا مِن غَفْلَتِهِمْ وقالُوا: هَذا سِحْرٌ، أيْ كانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الحَقِّ مُشْرِكِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وتَساهُلٍ، فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ صارُوا مُشْرِكِينَ عَنْ عِنادٍ ومُكابَرَةٍ.

وجُمْلَةُ وإنّا بِهِ كافِرُونَ مَقُولٌ ثانٍ، أيْ قالُوا: هَذا سِحْرٌ فَلا نَلْتَفِتُ إلَيْهِ وقالُوا إنّا بِهِ، أيْ بِالقُرْآنِ، كافِرُونَ، أيْ سَواءَ كانَ سِحْرًا أمْ غَيْرَهُ، أيْ فَرَضُوا أنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ ارْتَقَوْا فَقالُوا إنّا بِهِ كافِرُونَ، أيْ كافِرُونَ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ سَواءً كانَ سِحْرًا، أمْ شِعْرًا، أمْ أساطِيرَ الأوَّلِينَ. ولِهَذا المَعْنى أكَّدُوا الخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِيُؤْيِسُوا الرَّسُولَ ﷺ مِن إيمانِهِمْ بِهِ.