Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿أمْ ”حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينِ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءٌ مَحْياهم ومَماتُهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾“
انْتِقالٌ مِن وصْفِ تَكْذِيبِهِمْ بِالآياتِ واسْتِهْزائِهِمْ بِها، ثُمَّ مِن أمْرِ المُؤْمِنِينَ بِالصَّفْحِ عَنْهم وإيكالِ جَزاءِ صَنائِعِهِمْ إلى اللَّهِ ثُمَّ مِنَ التَّثْبِيتِ عَلى مُلازَمَةِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ إلى وصْفِ صِنْفٍ آخَرَ مِن ضَلالِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ وإحالَتِهِمُ الحَياةَ بَعْدَ المَوْتِ والجَزاءِ عَلى الأعْمالِ وتَخْيِيلِهِمْ لِلنّاسِ أنَّهم يَصِيرُونَ في الآخِرَةِ، عَلى الحالِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها في الدُّنْيا، عَظِيمُهم في الدُّنْيا عَظِيمُهم في الآخِرَةِ، وضَعِيفُهم في الدُّنْيا ضَعِيفُهم في الآخِرَةِ، وهَذا الِانْتِقالُ رُجُوعٌ إلى بَيانِ قَوْلِهِ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ [الجاثية: ١٥] .
فَحَرْفُ (أمْ) لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ، والِاسْتِفْهامُ الَّذِي يَلْزَمُ تَقْدِيرُهُ بَعْدَ (أمْ) اسْتِفْهامٌ إنْكارِيٌّ، والتَّقْدِيرُ: لا يَحْسَبُ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنَّهم كالَّذِينِ آمَنُوا لا في الحَياةِ ولا في المَماتِ.
و﴿الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ﴾ في نَقْلٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُمُ المُشْرِكُونَ كَما يُؤْذِنُ بِهِ الِانْتِقالُ مِنَ الغَرَضِ السّابِقِ إلى هَذا الغَرَضِ وإنَّما عَبَّرَ عَنْهم بِهَذا العُنْوانِ لِما في الصِّلَةِ مِن تَعْلِيلِ إنْكارِ المُشابَهَةِ والمُساواةِ بَيْنَهم وبَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ عِنْدَ اللَّهِ في عالَمِ الخُلْدِ ولِأنَّ اكْتِسابَ السَّيِّئاتِ مِن شِعارِ أهْلِ الشِّرْكِ إذْ لَيْسَ لَهم
صفحة ٣٥٢
دِينٌ وازِعٌ يَزَعُهم عَنِ السَّيِّئاتِ ولا هم مُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ والجَزاءِ، فَيَكُونُ إيمانُهم بِهِ مُرَغِّبًا في الجَزاءِ، ولِذَلِكَ كَثُرَ في القُرْآنِ الكِنايَةُ عَنِ المُشْرِكِينَ بِالتَّلَبُّسِ بِالسَّيِّئاتِ كَقَوْلِهِ ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: ١] إلى قَوْلِهِ ﴿ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ أنَّهم مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [المطففين: ٤] وكَقَوْلِهِ ﴿ما سَلَكَكم في سَقَرَ﴾ [المدثر: ٤٢] ﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾ [المدثر: ٤٣] ﴿ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ [المدثر: ٤٤] ﴿وكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٥] ﴿وكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر: ٤٦] وقَوْلُهُ ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ [الماعون: ١] ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾ [الماعون: ٢] ﴿ولا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الماعون: ٣] ونَظِيرُهُ ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤]، فَإنَّ ذَلِكَ حالُ الكُفّارِ، وأمّا المُؤْمِنُ العاصِي فَلا تَبْلُغُ بِهِ حالُهُ أنْ يَحْسَبَ أنَّهُ مُفْلِتٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِينَ. قالَ البَغَوِيُّ: نَزَلَتْ في نَفَرٍ مِن مُشْرِكِي مَكَّةَ قالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: لَئِنْ كانَ ما تَقُولُونَ حَقًّا لَنُفَضَّلَنَّ عَلَيْكم في الآخِرَةِ كَما فُضِّلْنا عَلَيْكم في الدُّنْيا.وعَنِ الكَلْبِيِّ: أنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ والوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ قالُوا لِعَلِيٍّ وحَمْزَةَ وبَعْضِ المُسْلِمِينَ: واللَّهِ ما أنْتُمْ عَلى شَيْءٍ ولَئِنْ كانَ ما تَقُولُونَ حَقًّا (أيْ إنْ كانَ البَعْثُ حَقًّا) لَحالُنا أفْضَلُ مِن حالِكم في الآخِرَةِ كَما أنّا أفْضَلُ حالًا مِنكم في الدُّنْيا. وتَأْوِيلُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا السَّبَبِ أنَّ حُدُوثَ قَوْلِ هَؤُلاءِ النَّفَرِ صادَفَ وقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ مِنَ السُّورَةِ أوْ أنَّ قَوْلَهم هَذا مُتَكَرِّرٌ فَناسَبَ تَعَرُّضَ الآيَةِ لَهُ حَقُّهُ.
ونُزُولُ الآيَةِ عَلى هَذا السَّبَبِ لِإبْطالِ كَلامِهِمْ في ظاهِرِ حالِهِ وإنْ كانُوا لَمْ يَقُولُوهُ عَنِ اعْتِقادٍ وإنَّما قالُوهُ اسْتِهْزاءً، لِئَلّا يَرُوجَ كَلامُهم عَلى دَهْمائِهِمْ والحَدِيثِينَ في الإسْلامِ لِأنَّ شَأْنَ التَّصَدِّي لِلْإرْشادِ أنْ لا يُغادِرَ مَغْمَزًا لِرَواجِ الباطِلِ إلّا سَدَّهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا﴾ [مريم: ٧٧] ﴿أطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: ٧٨] ولَهُ نَظائِرُ في القُرْآنِ.
وزادَ القُرْطُبِيُّ في حِكايَةِ كَلامِ الكَلْبِيِّ أنَّهم قالُوهُ حِينَ بَرَزُوا لَهم يَوْمَ بَدْرٍ، وهو لا يَسْتَقِيمُ لِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ولَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ اسْتِثْناءُ هَذِهِ الآيَةِ مِنها.
والِاجْتِراحُ: الِاكْتِسابُ، وصِيغَةُ الِافْتِعالِ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الجُرْحِ
صفحة ٣٥٣
فَأُطْلِقَ عَلى اكْتِسابِ السِّباعِ ونَحْوِها، ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِلابُ الصَّيْدِ جَوارِحَ وسُمِّي بِهِ اكْتِسابُ النّاسِ لِأنَّ غالِبَ كَسْبِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ كانَ مِنَ الإغارَةِ عَلى إبِلِ القَوْمِ وهي بِالرِّماحِ، قالَتْ أمُّ زَرْعٍ: فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وأخَذَ خَطِيًّا وأراحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، ولِذَلِكَ غَلَبَ إطْلاقُ الِاجْتِراحِ عَلى اكْتِسابِ الإثْمِ والخَبِيثِ.وظاهِرُ تَرْكِيبِ الآيَةِ أنَّ قَوْلَهُ ﴿سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ﴾ داخِلٌ في الحُسْبانِ المَنكُورِ فَيَكُونُ المَعْنى: إنْكارُ أنْ يَسْتَوِيَ المُشْرِكُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ لا في الحَياةِ ولا بَعْدَ المَماتِ، فَكَما خالَفَ اللَّهُ بَيْنَ حالَيْهِمْ في الحَياةِ الدُّنْيا فَجَعَلَ فَرِيقًا كَفَرَةً مُسِيئِينَ وفَرِيقًا مُؤْمِنِينَ مُحْسِنِينَ، فَكَذَلِكَ سَيُخالِفُ بَيْنَ حالَيْهِمْ في المَماتِ فَيَمُوتُ المُشْرِكُونَ عَلى اليَأْسِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إذْ لا يُوقِنُونَ بِالبَعْثِ ويُلاقُونَ بَعْدَ المَماتِ هَوْلَ ما تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، ويَمُوتُ المُؤْمِنُونَ رَجاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ والبُشْرى بِما وُعِدُوا بِهِ ويُلاقُونَ بَعْدَ المَماتِ ثَوابَ اللَّهِ ورِضْوانَهُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”سَواءً“ مَرْفُوعًا فَيَكُونُ مَوْقِعُ جُمْلَةِ ﴿سَواءً مَحْياهُمْ﴾ مَوْقِعَ البَدَلِ مِن كافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هي بِمَعْنى مِثْلِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ يُرِيدُ أنَّهُ بَدَلٌ مُطابِقٌ لِأنَّ الجُمْلَةَ تُبْدَلُ مِنَ المُفْرَدِ عَلى الأصَحِّ، والبَدَلُ المُطابِقُ هو عَطْفُ البَيانِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ﴿سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ﴾ بَيانُ ما حَسِبَهُ المُشْرِكُونَ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وخَلَفُ مَنصُوبًا، فَلَفْظُ سَواءً وحْدَهُ بَدَلٌ مِن كافِ المُماثِلَةِ، بَدَلٌ مُفْرَدٌ مِن مُفْرَدٍ أوْ حالٌ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في نَجْعَلُهم.
وهَذا لِأنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: سَنَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ خَيْرًا مِنكم كَما كُنّا في الحَياةِ خَيْرًا مِنكم.
فَضَمِيرُ مَحْياهم وضَمِيرُ مَماتِهِمْ عائِدانِ لِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ والَّذِينَ آمَنُوا عَلى التَّوْزِيعِ، أيْ مَحْيا كُلٍّ مُساوٍ لِمَماتِهِ، أيْ لا يَتَبَدَّلُ حالُ الفَرِيقَيْنِ بَعْدَ المَماتِ بَلْ يَكُونُونَ بَعْدَ المَماتِ كَما كانُوا في الحَياةِ غَيْرَ أنَ مَوْقِعَ كافِ التَّمْثِيلِ في قَوْلِهِ: ”كالَّذِينِ آمَنُوا“ لَيْسَ واضِحَ المُلاقاةِ لِحُسْبانِ المُشْرِكِينَ المُسَلَّطِ عَلَيْهِ الإنْكارُ لِأنَّهم إنَّما حَسِبُوا أنْ يَكُونُوا بَعْدَ المَماتِ (عَلى تَقْدِيرِ وُقُوعِ البَعْثِ)
صفحة ٣٥٤
أحْسَنَ حالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لا أنْ يَكُونُوا مِثْلَ المُؤْمِنِينَ لِأنَّهم قالُوا ذَلِكَ في مَقامِ التَّطاوُلِ عَلى المُؤْمِنِينَ، وإرادَةِ إفْحامِهِمْ بِسَفْسَطَتِهِمْ. فَبِنا أنَّ نُبَيِّنَ مُوقِعَ هَذا الكافِ في الآيَةِ.والَّذِي أرى: أنَّ مَوْقِعَهُ الإيماءُ إلى أنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُؤْمِنِينَ حُسْنَ الحالِ بَعْدَ المَماتِ حَتّى صارَ ذَلِكَ المُقَدَّرُ مَضْرِبَ الأمْثالِ ومَناطَ التَّشْبِيهِ، وإلى أنَّ حُسْبانَ المُشْرِكِينَ أنْفُسَهم في الآخِرَةِ عَلى حالَةٍ حَسَنَةٍ باطِلٌ، فَعَبَّرَ عَنْ حُسْبانِهِمُ الباطِلِ بِأنَّهم أثْبَتُوا لِأنْفُسِهِمْ في الآخِرَةِ الحالَ الَّتِي هي حالُ المُؤْمِنِينَ، أيْ حَسِبَ المُشْرِكُونَ بِزَعْمِهِمْ أنْ يَكُونُوا بَعْدَ المَوْتِ في حالَةٍ إذا أرادَ الواصِفُ أنْ يَصِفَها وصَفَها بِمُشابَهَةِ حالِ المُؤْمِنِينَ في عِنْدِ اللَّهِ وفي نَفْسِ الأمْرِ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ المُشْرِكِينَ مَثَّلُوا حالَهم بِحالِ المُؤْمِنِينَ فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: ”كالَّذِينِ آمَنُوا“ إلى حِكايَةِ الكَلامِ المَحْكِيِّ بِعِبارَةٍ تُساوِيهِ لا بِعِبارَةِ قائِلِهِ، وذَلِكَ مِمّا يُتَوَسَّعُ فِيهِ في حِكايَةِ الأقْوالِ كَقَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ عِيسى ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧] فَإنَّ ما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ: أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ ورَبَّهم، وذَلِكَ مِن خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ دَعا اللَّهُ هُنا قَصْدَ التَّنْوِيهِ بِالمُؤْمِنِينَ والعِنايَةِ بِزُلْفاهم عِنْدَ اللَّهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أحَسِبُوا أنْ نَجْعَلَهم في حالَةٍ حَسَنَةٍ ولَكِنَّ هَذا المَأْمُولَ في حُسْبانِهِمْ هو في نَفْسِ الأمْرِ حالُ المُؤْمِنِينَ لا حالُهم. فَأوْجَزَ الكَلامَ، وفَهْمُ السّامِعِ يَبْسُطُهُ.
والمُواجَهُ بِهَذا الكَلامِ هُمُ النَّبِيءُ والمُؤْمِنُونَ تَكْمِلَةً لِلْغَرَضِ المُبْدَأِ بِهِ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤] .
عَلى أنَّ لَكَ أنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعالى: ”كالَّذِينِ آمَنُوا“ مُعْتَرِضًا بَيْنَ مَفْعُولَيْ نَجْعَلُ وهُما ضَمِيرا الغائِبِينَ، وجُمْلَةُ ”سَواءً مَحْياهم أوْ ولَفْظُ (سَواءً) في قِراءَةِ نَصْبِهِ فَلا يَكُونُ مُرادًا إدْخالُهُ في حُسْبانِ المُشْرِكِينَ.
ويَجُوزُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:“ كالَّذِينِ آمَنُوا " تَهَكُّمًا عَلى المُشْرِكِينَ في حُسْبانِهِمْ تَأْكِيدًا لِلْإنْكارِ عَلَيْهِمْ.
ومِن خِلافِ ظاهِرِ التَّرْكِيبِ ما قِيلَ: إنَّ مَدْلُولَ ﴿سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ﴾ لَيْسَ مِن حُسْبانِ المُشْرِكِينَ المَنكُورِ ولَكِنَّهُ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، والمَعْنى: أنَّهُ لَمّا أنْكَرَ
صفحة ٣٥٥
حُسْبانَ اسْتِواءِ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ خَطَرَ بِبالِ السّامِعِ أنْ يَسْألَ كَيْفَ واقِعُ حالِ الفَرِيقَيْنِ فَأُجِيبَ بِأنَّ حالَ مَحْياهم وهو مِقْياسُ حالِ مَماتِهِمْ، أيْ حالُهم في الآخِرَةِ مُخْتَلِفٌ كَما هو في الدُّنْيا مُخْتَلِفٌ، فالمُؤْمِنُونَ يَحْيَوْنَ في الإقْبالِ عَلى رَبِّهِمْ ورَجاءِ فَضْلِهِ، والكافِرُونَ يَعِيشُونَ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبادَةِ رَبِّهِمْ آيِسِينَ مِنَ البَعْثِ والجَزاءِ. وهَذا لَيْسَ عَيْنَ الجَوابِ ولَكِنَّهُ مِنَ الِاكْتِفاءِ بِعِلَّةِ الجَوابِ عَنْ ذِكْرِهِ. والتَّقْدِيرُ: حالُ الفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفٌ في الآخِرَةِ كَما كانَ مُخْتَلِفًا في الحَياةِ.وجُمْلَةُ ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ تَذْيِيلٌ لِما قَبْلَها مِن إنْكارِ حُسْبانِهِمْ وما اتَّصَلَ بِذَلِكَ الإنْكارِ مِنَ المَعانِي.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ وإنْ كانَ مَوْرِدُها في تَخالُفِ حالَيِ المُشْرِكِينَ والمُؤْمِنِينَ فَإنَّ نَوْطَ الحُكْمِ فِيها بِصِلَةِ ﴿الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ﴾ يَجْعَلُ مِنها إيماءً إلى تَفاوُتِ حالَيِ المُسِيئِينَ والمُحْسِنِينَ مَن أهْلِ الإيمانِ وإنْ لَمْ يَحْسَبْ أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ ذَلِكَ وعَنْ تَمِيمٍ الدّارِيِّ أنَّهُ باتَ لَيْلَةً يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ ويَرْكَعُ ويَسْجُدُ ويَبْكِي إلى الصَّباحِ. ورُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وعَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ: أنَّهُ كانَ كَثِيرًا ما يُرَدِّدُ مِن أوَّلِ اللَّيْلِ هَذِهِ الآيَةَ ثُمَّ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مِن أيِّ الفَرِيقَيْنِ أنْتَ. يُخاطِبُ نَفْسَهُ فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ تُسَمّى مَبْكاةُ العابِدِينَ.
والمَحْيا والمَماتُ: مَصْدَرانِ مِيمِيّانِ أوِ اسْما زَمانٍ، أيْ حَياتُهم ومَوْتُهم، وهو عَلى كِلا الِاعْتَبارَيْنِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ حالَةُ مَحْياهم وحالاتُ مَماتِهِمْ.